ج: الصلاة في المسيحية هي صلة حقيقية وعلاقة حية وشركة روحية مع الله الآب ومع ابنه يسوع المسيح.
فهي ليست بأي حال من الأحوال فرضاً واجباً يؤديه الإنسان لكي يُرضي الله. لأن الفرض هو واجب مفروض على الإنسان فإذا أدَّاه الإنسان فقد وفّى الفرض حقّه وأكمله. أما الصلة الحقيقية فهي علاقة حية تنبع من قلب الإنسان فتكون صلاته إنما نتيجة هذه العلاقة الصادقة القلبية بين الله والإنسان. لذلك فالفرق كبير بين الصلاة وبين الفرض. فمن يؤدي الصلاة كفرض يؤديها خوفاً من غضب الله واسترضاءً لوجهه فيمتلأ قلب الإنسان بعبودية الخوف والشك من السيد.. أما من يمارس الصلاة في المسيحية فإنما يمارس علاقة قلبية صادقة مع الله خالية من عبودية الخوف والشك كما هو مكتوب "إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا آبا الآب." لذلك فصلاة المسيحي الحقيقي تقوده إلى شركة تلذذ مع الله فتصبح حياته كلها صلاة يمارسها بروح البنوة والمحبة فيتصل بالآب السماوي في كل حين فتسمو حياته وتتقدس وتتطهر وتمتلئ من معرفة مشيئة الله "في كل حكمةٍ وفهمٍ روحي" وعلاقة البنوة والمحبة في قلب المؤمن "تطرح الخوف إلى خارج" وتعطي الإنسان ثقة وفرحاً وانتظاراً في صلاته .. يقول الكتاب "فلنتقدَّم بثقةٍ إلى عرش النعمة لكي ننال رحمةً ونجد نعمةً عوناً في حينهِ" "فإذ لنا أيها الأخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع .. لنتقدَّم بقلبٍ صادق في يقين الإيمان مرشوشةً قلوبنا من ضميرٍ شرير ومغتسلةً أجسادنا بماءٍ نقي لنتمسَّك بإقرار الرجاءِ راسخاً لأن الذي وعد هو أمين."
أمر آخر أراد المسيح أن يعلمنا إياه عن الصلاة ورد في إنجيل متى "ومتى صلَّيت فلا تكن كالمرائين. فإنهم يحبُّون أن يصلُّوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس. الحقَّ أقول لكم إنهم قد استوفوا أَجْرَهم. وأما أنت فمتى صلَّيت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصَلِّ إلى أبيك الذي في الخفاءِ. فأبوك الذي يرى في الخفاءِ يجازيك علانيةً. وحينما تصلون لا تكرّروا الكلام باطلاً كالأمم. فإنهم يظنُّون أنهُ بكثرة كلامهم يُستجاب لهم. فلا تتشبَّهوا بهم. لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليهِ قبل أن تسأَلوهُ"
وهنا يحذرنا المسيح من صلاة المرائين الذين يحبون أن يظهروا للناس مصلين لذلك يختاروا المجامع المزدحمة وزوايا الشوارع -أي التقاء الشوارع- حيث يشاهدهم الناس أكثر فيكتسبون كرامة وسمعة عند الناس أنهم أتقياء مصلين لعلّ هذه السمعة الحسنة تفيدهم في أعمالهم وأشغالهم الاجتماعية والمعيشية. يقول لنا المسيح "الحقَّ أقول لكم إنهم قد استوفوا أَجْرَهم." قال هذا عن الذين يصلون ليظهروا تقواهم للناس.
أما الصلاة المسيحية الحقيقية فهي عبارة عن عمل الله السري في قلب الإنسان فيصلي الإنسان في علاقة خاصة بينه وبين أبيه السماوي و"الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها." ويعلّق المسيح قائلاً "فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيةً." فأساس الصلاة المسيحية هو أبوه الله وتبنيه للإنسان الذي يؤمن به "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه." فالذي يقبل المسيح بالإيمان في قلبه يأخذ هذا السلطان أن يصير ابناً لله لأنه قد آمن بابن الله وبتجسده وبموته عن خطاياه من أجل خلاصه، فاختبر النعمة المخلصة واختبر عطية الروح القدس فتغيرت حياته وصار خليقة جديدة في المسيح يسوع وبالتالي يتكلم مع الآب والآب يتكلم معه. وهذه الشركة والوحدة بين الله والإنسان تجعل الصلاة بركة ولذّة تفيض بالنعمة والخير على المؤمن وهذا ما قصده المسيح بقوله "فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية" أي أن بركات ونِعم الآب السماوي تغمر حياة المؤمن المصلي فتشبع حياته بعمل الله فيه ويتم فيه القول الكتابي "فليضئْ نوركم هكذا قدام الناس لكي يَرَوا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات"
س: لكن ما معنى قول المسيح "وحينما تصلُّون لا تكرّروا الكلام باطلاً كالأمم. فإنهم يظنُّون أنهُ بكثرة كلامهم يُستجاب لهم."
ج: الأمم في علاقتهم بآلهتهم الوثنية يمارسون صلوات تعتمد على تكرار الكلام وتصنيف إلقاءه وتغيير أوضاع المصلين أثناء التكرار، ويظنون أنه بكثرة كلامهم ومجهودهم يُستجاب لهم. وهنا يحذرنا المسيح من هذا الأسلوب لأن استجابة الصلاة ليست بكثرة الكلام أو بكيفيته أو بالتعب فيه بأي شكل أو صورة لكن استجابة الصلاة تعتمد أساساً على العلاقة الحية بين الله والإنسان كأب مع أولاده الذين يعرفون إرادة أبيهم ويصلون بحسبها فيستجاب لهم..
نرى مثالاً واضحاً لتكرار الكلام باطلاً أيام آخاب ملك إسرائيل حينما تحدّى إيليا النبي أنبياء الوثن المُسمَى بالبعل. "فتقدَّم إيليا إلى جميع الشعب وقال حتى متى تعرجون بين الفرقتين. إن كان الربُّ هو الله فاتبعوهُ وإن كان البعل فاتبعوهُ. فلم يجبهُ الشعب بكلمة. ثم قال ايليا للشعب أنا بقيت نبيّاً للربّ وحدي وأنبياءُ البعل أربع مئَة وخمسون رجلاً. فليعطونا ثورين فيختاروا لأنفسهم ثوراً واحداً ويقطّعوهُ ويضعوهُ على الحطب ولكن لا يضعوا ناراً وأنا أقرّب الثور الآخر وأجعلهُ على الحطب ولكن لا أضع ناراً. ثم تدعون باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الربّ. والإله الذي يجيب بنار فهو الله. فأجاب جميع الشعب وقالوا الكلام حسنٌ. فقال إيليا لأنبياءِ البعل اختاروا لأنفسكم ثوراً واحداً وقرّبوا أولاً لأنكم أنتم الأكثر وادعوا باسم آلهتكم ولكن لا تضعوا ناراً. فأخذوا الثور الذي أُعطِى لهم وقرّبوهُ ودعوا باسم البعل من الصباح إلى الظهر قائلين يا بعل أجبنا. فلم يكن صوت ولا مجيب. وكانوا يرقصون حول المذبح الذي عُمِل. وعند الظهر سخر بهم إيليا وقال ادعوا بصوت عالٍ لأنهُ إله. لعلّهُ مستغرق أو في خلوة أو في سَفَر أو لعلَّهُ نائِم فيتنبَّه. فصرخوا بصوت عالٍ وتقطَّعوا حسب عادتهم بالسيوف والرماح حتى سال منهم الدم. ولما جاز الظهر وتنبأُوا إلى حين اصعاد التقدمة ولم يكن صوت ولا مجيب ولا مصغٍ قال إيليا لجميع الشعب تقدَّموا إليَّ. فتقدَّم جميع الشعب إليهِ." وهنا نرى بعض العادات الوثنية في الصلاة من تكرار الكلام لوقت طويل من الصباح إلى الظهر، ثم الحركات أثناء الصلاة استجداءً للاستجابة فكانوا يرقصون حول المذبح ثم ازدياد الحركات عنفاً استجداءً أحرى للاستجابة فصرخوا بصوت عال وتقطعوا بالسيوف والرماح حتى سال منهم الدم. والمسيح يحذرنا من كل هذه العادات الوثنية في الصلاة فأبانا لا يحتاج لكل هذا حتى ينتبه إلينا فهو أبونا الصالح المحب الذي يعلم ما نحتاج إليه قبل أن نسأله.
لذلك هيا بنا لنرى كيف صلى إيليا إلى الله الحقيقي "وكان عند إصعاد التقدمة أن إيليا النبي تقدَّم وقال أيها الربُّ إله ابرهيم واسحق وإسرائيل ليُعلَم اليومَ أنك أنت الله في إسرائيل وأني أنا عبدك وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور. استجبني يا ربُّ استجبني ليعلم هذا الشعب أنك أنت الربُّ الإله وأنك أنت حوّلت قلوبهم رجوعاً. فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة. فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا الربُّ هو الله الربُّ هو الله."
وهكذا استجاب الله صلاة الإيمان كما هو مكتوب "كان إيليا إنساناً تحت الآلام مثلنا وصلَّى صلاةً أن لا تمطر فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستَّة أشهر. ثم صلَّى أيضاً فأعطت السماءُ مطراً وأخرجت الأرض ثمرها" ومن هذا كله نفهم ما هي الصلاة الحقيقية كما علّمنا المسيح "وحينما تصلُّون لا تكرّروا الكلام باطلاً كالأمم. فإنهم يظنُّون أنهُ بكثرة كلامهم يُستجاب لهم. فلا تتشبَّهوا بهم. لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليهِ قبل أن تسأَلوهُ" آمين.