ج: من الملائم جداً أن يأتي الحديث عن الصوم عقب الحديث عن الصلاة في المسيحية لأن الصلاة والصوم مرتبطان معاً، إذ ينبغي علينا كمسيحيين أن نصلّي في كل حين كما هو مكتوب "ينبغي أن يُصَلَّى كلَّ حينٍ ولا يُمَلّ" لكن إن قادنا الروح القدس إلى الصوم مع الصلاة فحينئذٍ تكون حالة خاصة فيها يشترك الصوم مع الصلاة في تذللنا وتضرعنا، وتقديم طلباتنا إلى الرب.
لكن قبل أن نستفيض في الحديث عن الصوم المقبول لدى الله يجب أن نعرف أن هناك صوم مرفوض من الله نقرأ عنه في سفر اشعياء "يقولون لماذا صمنا ولم تنظر. ذلَّلنا أنفسنا ولم تلاحظ. ها انكم في يوم صومكم تُوجِدون مسرَّةً وبكل أشغالكم تُسخَّرون. ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بكلمة الشر. لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاءِ. أمثل هذا يكون صومٌ أختارهُ. يوماً يذلّل الإنسان فيهِ نفسهُ يحنى كالأسلة راسهُ ويفرش تحتهُ مسحاً ورماداً. هل تسمي هذا صوماً ويوماً مقبولاً للرب." وهنا نجد أن الصوم المرفوض من الله هو الصوم الشكلي المظهري الغير نابع من أعماق القلب، فهذا صوم يمارسه الإنسان لكي يظهر صائماً وقد حذرنا المسيح من هذا الصوم قائلاً "ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين. فإنهم يغيّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحقَّ أقول لكم إنهم قد استوفوا أَجْرَهم."
علّة أخرى في هذا الصوم تجعله أكثر رفضاً من الله وهو أن الصائم إنما يصوم ويُوجد لنفسه مسرّة في يوم الصوم، وبكل أشغاله يسخر غيره حتى يفقد الصوم فاعليته في حياة الإنسان الصائم، بل كثيراً ما يؤدي هذا الصوم إلى الخصومة والنزاع والضرب بكلمة الشر.
أما الصوم المقبول فيكمل به الوحي المقدس الحديث في سفر اشعياء بالقول "أليس هذا صوماً اختارهُ حَلَّ قيود الشر. فَكَّ عُقَد النير وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كلّ نيرٍ. أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوهُ وأن لا تتغاضى عن لحمك" وهنا نرى أن الصوم المقبول بل المختار من الرب هو الصوم الناتج من القلب المُسلَّم ليد الرب والخاضع والمطيع لمشيئة الله والممتلئ بالثمر الصالح والسلوك المستقيم، فأساس الأمر أن الله ينظر إلى القلب وليس إلى المظاهر الخارجية، فهو ينظر إلى الداخل وليس إلى الخارج. فإن كان الداخل أي قلب الإنسان نقياً بنعمة المسيح، يقبل الله صوم الإنسان وصلاته وعبادته، لذلك أضاف المسيح له المجد صفة أخرى هامة لهذا الصوم المقبول حينما قال "وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك. لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيةً"
وهنا يعلمنا المسيح أن ما يؤكد صدق وأمانة الإنسان الصائم أنه لا يريد أن يظهر للناس صائماً بل هو يتذلل في الخفاء أي قلبياً أمام أبيه السماوي الذي هو "فاحص القلب مختبر الكلى"
ونلاحظ أيضاً قول المسيح "أبوك الذي يرى في الخفاء" فكلمة أبوك تشير إلى العلاقة الحقيقية الوثيقة بين الصائم والله فهي علاقة الأب بابنه، فحينما تقود هذه العلاقة الإنسان في سلوكه بقداسة وبصلاة وصوم حينئذ يكافئ الله مثل هذا الإنسان علانية. كما ذكر أيضاً اشعياء النبي بعض هذه المكافآت فقال "حينئذٍ ينفجر مثل الصبح نورك وتنبت صحتك سريعاً ويسير برك أمامك ومجد الرب يجمع ساقتك. حينئذٍ تدعو فيجيب الرب. تستغيث فيقول هانذا. إن نزعت من وسطك النير والإيماءَ بالأُصبع وكلام الإثم وأنفقت نفسك للجائع وأشبعت النفس الذليلة يشرق في الظلمة نورك ويكون ظلامك الدامس مثل الظهر ويقودك الرب على الدوام ويشبع في الجدوب نفسك وينشط عظامك فتصير كجنَّة ريَّاً وكنبع مياهٍ لا تنقطع مياههُ. ومنك تُبنَى الخِرَب القديمة. تقيم أساسات دور فدور فيسمونك مرمم الثغرة مرجع المسالك للسكنى"
ويعبر أيضاً الرسول بولس عن مقدار ما يستمتع به الإنسان الذي له علاقة وشركة حيَّة وحقيقية مع الله الآب إذ يقول "وسلام الله الذي يفوق كلَّ عقلٍ يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع"
س: لكن متى يصوم الإنسان؟
ج: من دراستنا لكلمة الله نجد أن الصوم مرتبط بعدة أمور نذكر بعضاً منها
أولاً: مرتبط بالتوبة والرجوع إلى الله وطلب رحمته
كما قال يوئيل النبي "قدّسوا صوماً نادوا باعتكافٍ اجمعوا الشيوخ جميع سكّان الأرض إلى بيت الرب إلهكم واصرخوا إلى الرب" وأيضاً يكمل يوئيل النبي كلامه قائلاً "ولكن الآن يقول الرب ارجعوا إلىَّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح. ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنهُ رؤوف رحيمٌ بطئُ الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشر. لعلهُ يرجع ويندم فيُبقي وراءَهُ بركة تقدمة وسكيباً للرب إلهكم. اضربوا بالبوق في صهيون قدّسوا صوماً نادوا باعتكاف. اجمعوا الشعب قدّسوا الجماعة احشدوا الشيوخ اجمعوا الأطفال وراضعي الثديّ ليخرج العريس من مخدعهِ والعروس من حَجلَتها. ليبكِ الكهنة خدام الرب بين الرواق والمذبح ويقولوا اشفق يارب على شعبك ولا تسلم ميراثك للعار حتى تجعلهم الأمم مَثَلاً. لماذا يقولون بين الشعوب أين إلههم." وهكذا نرى أن "ذبائح الله هي روحٌ منكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقرهُ."
ثانياً: الصوم مرتبط بطلب رحمة الله بكل لجاجة في المصائب والأوقات الصعبة
مثلما حدث أيام مردخاي بعدما أقنع هامان الشرير الملك بإبادة اليهود "وأرسلت الكتابات بيد السعاة إلى كل بلدان الملك لإهلاك وقتل وإبادة جميع اليهود من الغلام إلى الشيخ والأطفال والنساء في يوم واحد في الثالث عشر من الشهر الثاني عشر أي شهر آذار" "ولما علم مردخاي (عبد الله التقي) كل ما عُمِل شقَّ مردخاي ثيابه ولبس مسحاً برماد وخرج إلى وسط المدينة وصرخ صرخة عظيمة مُرَّة" ويقول الكتاب "وفي كل كورة حيثما وصل إليها أمر الملك وسنَّتُهُ كانت مناحة عظيمة عند اليهود وصوم وبكاء ونحيب. وانفرش مسح ورماد لكثيرين" وماذا كانت النتيجة؟ أباد الله هامان الشرير وعلَّقه على صليبه ورد الغضب عن شعبه وصدر الأمر لليهود أن يكونوا مستعدين لهذا اليوم الذي تقرر قبلاً إهلاكهم فيه لينتقموا من أعدائهم
ويكمل الكتاب القصة بهذه الأقوال المباركة "وخرج مردخاي من أمام الملك بلباس ملكي اسمانجوني وأبيض وتاج عظيم من ذهب وحلَّة من بزٍّ وارجوان. وكانت مدينة شوشن متهلّلة وفرحة. وكان لليهود نور وفرح وبهجة وكرامة. وفي كل بلاد ومدينة كل مكانٍ وصل إليهِ كلام الملك وأمرهُ كان فرح وبهجة عند اليهود وولائمِ ويوم طَيِّب. وكثيرون من شعوب الأرض تهوَّدوا لأن رعب اليهود وقع عليهم."
ثالثاً: الصوم مرتبط بالتذلل لطلب القوة الروحية الإيمانية للانتصار على قوة الشر
فحينما لم يقدر تلاميذ المسيح أن يخرجوا شيطاناً من غلام قدموه للمسيح "فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان فشُفي الغلام من تلك الساعة. ثم تقدم التلاميذ إلى يسوع على انفراد وقالوا لماذا لم نقدر نحن أن نُخرجهُ. فقال لهم يسوع لعدم ايمانكم. فالحقَّ اقول لكم لو كان لكم إيمانٌ مثل حبَّة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ولا يكون شيءٌ غير ممكنٍ لديكم. وأما هذا الجنس فلا يخرج إلاّ بالصلاة والصوم." لذلك إن كان في حياتنا أيّ انهزام أمام العدو فعلينا أن نتذلل ونتواضع تحت يد الله القوية بالصوم والصلاة لكي يرفعنا الله في حينه.
رابعاً: الصوم مرتبط بالخدمة والمهام الجليلة التي يكلفنا بها الرب.
فنحن نقرأ في سفر الأعمال "وكان في انطاكية في الكنيسة هناك أنبياء ومعلّمون… وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا حينئذٍ وصلّوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما" وبالفعل إذ انطلقا استخدمهما الرب بقوة فبشرّا وتلمذا كثيرين ويقول الكتاب أيضاً عنهما أنهما كانا "يشددان أنفس التلاميذ ويعظانهم أن يثبتوا في الإيمان وأنه بضيقاتٍ كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله. وانتخبا لهم قسوساً في كل كنيسة ثم صلّيا بأصوامٍ واستودعاهم للرب الذي كانوا قد آمنوا به."
وهكذا نرى دائماً بركات التذلل أمام الرب الإله والسلوك بالتواضع أمامه "لذلك يقول يقاوم الله المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة. فاخضعوا لله. قاوموا إبليس فيهرب منكم. اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم. نقّوا أيديكم أيها الخطاة وطهّروا قلوبكم يا ذوي الرأيين. اكتئبوا ونوحوا وابكوا. ليتحول ضحككم إلى نوحٍ وفرحكم إلى غمٍ. اتضعوا قدام الرب فيرفعكم." آمين