الإصحاح الثاني
الآيات (1-5): "يا ابني أن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك. حتى تميل آذنك إلى الحكمة وتعطف قلبك على الفهم. أن دعوت المعرفة ورفعت صوتك إلى الفهم. أن طلبتها كالفضة وبحثت عنها كالكنوز. فحينئذ تفهم مخافة الرب وتجد معرفة الله."
سبق سليمان في الإصحاح السابق وحذر من خطورة الانسياق لإبليس وللأشرار من أتباعه ثم حذر من خطورة من لا يسمع لكلام الله. وهنا يوجه كلامه لمن يرغب في أن يتعلم وتكون له النية على أن يسمع صوت الله.
إن قبلت كلامي= إن أصغيت وانتبهت إلى أقوالي سواء كانت وعود أو تأنيب وتوبيخ أو وصايا أو إعلانات عن فكر الله، فكلام الله أعم من الوصايا وهو يشمل هذا كله. ونفهم من هذا القول أن الإنسان حر في أن يختار طريق الاستماع أو طريق الرفض لكلام الله. والبداية هي أن نقرر وتكون لنا النية أن نقبل كلام الله.
وخبأت وصاياي عندك= الخطوة الثانية هي الاهتمام بما سمعناه من كلام الله. حتى تميل أذنك إلى الحكمة= توجه أذنك إلىّ وتصغى بانتباه وشوق واهتمام، وتعني أن تتحول الأذن عن الاهتمام بسماع صوت العالم وتتعطش إلى المعرفة عن الله أكثر. تعطف قلبك على الفهم= عطف يعني مال، والمقصود توجه قلبك إلى الفهم. والقلب في العبرية يشير للقوى العقلية والأدبية والعاطفية فهو يعبر عن كل الكيان الإنساني فهو مركز الحياة. ونجد هنا طالب الحكمة وقد سيطرت على مشاعره وعقله فكرة التعمق في طلب الله. ورفعت صوتك= صرخت بشوق وطلبت بلهفة من الله، في صلاة حارة وتضرعات. وهذا ما فعله سليمان نفسه حين طلب من الله في صلاته أن يمنحه الحكمة (1مل9:3). وبحثت عنها كالكنوز= هنا يصل طالب الحكمة لدرجة أعلى، لقد اكتشف أن كلمة الله هي أثمن ما يمكن أن يحصل عليه المرء فهي كالكنوز (مت44:13).. حينئذ تجد معرفة الله، حينئذ تفهم مخافة الرب= هذا هو الهدف وقد رسمت الآيات السابقة طريقة الوصول لهذا الهدف والحصول عليه. فهذه الآيات التي أمامنا تكشف لنا كيف نجد الحكمة أو معرفة الله؟ والإجابة على ذلك:- أن الله أعطانا كلمته ولكن هل نحن على استعداد أن نقرر أننا نريد قبولها، الموضوع لا يحتاج ذكاء بشري عادي بل يتطلب حالة النفس هل هي تريد أو لا تريد؟ فكلمة الله موجودة وعلينا أن نفتش فيها والروح القدس سيعطينا فهماً لها. والخطوة الثانية بعد أن نتخذ قرارنا أن نميل أذاننا لنسمع، أو نبدأ لنفتش عن الطريق الذي قررنا أن نسلكه ونترك طريق العالم الخاطئ. والخطوة التالية هي أن يصير طلبنا لطريق الله، طريق الحكمة باهتمام وبجدية وما نعرفه نخبأهُ ولا نفرط فيه. والنمو في هذا الطريق يجعلنا نطلبه باهتمام أكثر وتصبح شهوة معرفة المسيح هي من كل القلب، فلا تكون قراءة الكتاب المقدس قراءة سطحية بل بعمق وفيها نميل الأذن ونوجه القلب للفهم. بل نصرخ لله طالبين أن نفهم وما نفهمه لا نفرط فيه بل نخبأهُ في القلب كمن يخبئ شئ ثمين. وعلينا أن نبحث في كلمة الله كمن يبحث عن كنز وتشبيه كلمة الله بالكنز لسببين [1] هي قيمة جداً ولكنها مختبأة [2] مثل أي كنز تحتاج لمن يفتش عنها وينقب وراءها ليجد المعاني وراء الكلمات، ننقب لنفهم المعاني العميقة وراء الكلمات، وهي تستحق كل عناء (في8:3) وكلمة الله قادرة أن تجعلنا حكماء، ولنفهم أننا لن نجد حكمة حقيقية خارجاً عن كلمة الله، لذلك علينا أن نقبلها دون تذمر أو مناقشة أو اعتراض. ومن يقبلها يأخذ حكمة، ومن يجد ويتعب ليفهم سيعطيه الله المعرفة والحكمة. فالحكمة هي عطية الله وليست نتيجة مجهود بشري فقط.
الآيات (6-9): "لأن الرب يعطي حكمة من فمه المعرفة والفهم. يذخر معونة للمستقيمين هو مجن للسالكين بالكمال. لنصر مسالك الحق وحفظ طريق أتقيائه. حينئذ تفهم العدل والحق والاستقامة كل سبيل صالح."
الآيات السابقة تكلمت عن البحث عن الحكمة وهنا تتكلم عن السير في طريق الكمال. فطالما وجدنا معرفة الله ووجدنا الحكمة علينا أن نسلك بموجبها. وهنا تنبيه يشدد عزيمتنا أن الله سوف يساعدنا في طريق الحق فنحن إذاً لسنا وحدنا في الطريق.
معونة= من يقرر أن يسلك في طريق الله، عليه أن لا يخاف فالله سيعطيه معونة ويؤيده بالمشورة الصالحة والقوة التي تسنده. المستقيمين= هم الأبرار الذين يسلكون في طريق الله. مجن= عدة من عدد الحرب لحماية الصدر والظهر. هنا الله يعد بالحماية لمن يسلك في طريقه "لا تخف يا إبرام أنا ترس لك" (تك1:15) يذخر معونة= يخبئ الله المعونة ويظهرها للأبرار فقط السالكين بالكمال= أي الأمناء في سلوكهم مع الله ومع الناس بلا إعوجاج. طريق أتقيائه= الرب يحفظ طريقهم فهم يسيرون في طريقه. لنصر مسالك الحق= علينا أن نقرر أن نسلك بالحق في طريق الله، والله لن يتخلى عنا أو يتركنا بل إذا سلكنا في مسالك الحق يعطينا الله مهماً أعمق للحق والعدل والاستقامة، بل في كل سبيل صالح فينتقل من نمو إلى نمو ومن عمق إلى عمق في الحكمة والمعرفة. ولنذكر أننا لن نعرف طرق الحق والعدل والاستقامة إلا لو مارسناها. لن نعرف قوة كلمة الله إلا لو قررنا أن نحيا بها ونطبقها بأمانة فحينئذ يساعدنا الله ويفتح عيوننا فنعرف أكثر عنه وعن جمال وقوة كلامه ووصاياه، وهكذا من نمو إلى نمو. فكلمة الله في كتابه المقدس تقودنا للكمال (2تي16:3،17). والكمال يأتي ليس بالمعرفة النظرية بل بالسلوك (كو9:1-11). والله يعطي لمن يسلك أن يفهم العدل= يكون الإنسان باراً غير منحازاً في أحكامه. ويفهم الحق= الرأي السديد وتمييز الأمور المتخالفة (في9:1،10). والإستقامة= السلوك في طريق الله. وبهذا يعطي الله لمن يسلك في طريقه فهماً أكثر ووضوح رؤية لواجباته تجاه الله (الاستقامة) وواجباته تجاه الناس (العدل والحق) والله وحده مصدر هذه الحكمة الحقيقية =لأن الرب يعطي حكمة= والله يعطيها لمن يطلب (يع5:1) من فمه المعرفة= فالله أعطى من فمه لأنبيائه ورسله وهم كتبوا الكتاب المقدس. ولنلاحظ أن المسيح مذَّخر فيه كل كنوز الحكمة (كو3:2) وهو يعطيها لمن يطلب (اف17:1) ويعطي بالأكثر لمن يسلك في طريق الكمال. والروح القدس الذين نحن هيكلاً له هو روح الحكمة فهو يهبنا حكمة (أش2:11 + يو13:16-15).
الآيات (10-22): "إذا دخلت الحكمة قلبك ولذت المعرفة لنفسك. فالعقل يحفظك والفهم ينصرك. لإنقاذك من طريق الشرير ومن الإنسان المتكلم بالأكاذيب. التاركين سبل الاستقامة للسلوك في مسالك الظلمة. الفرحين بفعل السوء المبتهجين بأكاذيب الشر. الذين طرقهم معوجة وهم ملتوون في سبلهم. لإنقاذك من المرأة الأجنبية من الغريبة المتملقة بكلامها. التاركة أليف صباها والناسية عهد إلهها. لأن بيتها يسوخ إلى الموت وسبلها إلى الأخيلة. كل من دخل إليها لا يؤوب ولا يبلغون سبل الحياة. حتى تسلك في طريق الصالحين وتحفظ سبل الصديقين. لأن المستقيمين يسكنون الأرض والكاملين يبقون فيها. أما الأشرار فينقرضون من الأرض والغادرون يستأصلون منها."
هذه الآيات تشرح أن الحكمة الحقيقية التي يعطيها لنا الله قادرة أن تحفظنا من طريق الخراب والدمار والهلاك الذي تقودنا له الخطية وبالتالي فالحكمة الإلهية هي أثمن من كل كنوز الدنيا، فكل كنوز الدنيا إذا امتلكتها وسلكت في طريق الخطية ستذهب هباءً، أما لو إمتلكت الحكمة فلقد امتلكت كل شئ "كأن لا شئ لنا ونحن نملك كل شئ" (2كو10:6 + أع6:3). ولكن عدو الخير يسعى وراء كل واحد منا حتى يوقع به كما أوقع بأمنا حواء، ومن يتمسك بالحق تكون له حكمة فلا ينخدع بغوايات إبليس، بل تهدينا الحكمة للطريق السليم أمام الخداعات التي نتعرض لها وهذه الخداعات هي: خداع الأشرار (10-15) خداع المرأة الشريرة (16-22) وهذه صورة لنهاية الأيام فهناك عدوين للكنيسة الوحش (رؤ13) وبابل الزانية (رؤ17) وكيف نختبر أنفسنا هل لنا حكمة أم لا؟ الإجابة بأن نسأل أنفسنا هل نرفض الغواية (إذاً لنا حكمة) أن نقبلها (فليست لنا حكمة).
الحكمة تحفظنا من خداع الأشرار (10-15)
إذا دخلت الحكمة قلبك= القلب هو مركز الحياة بما فيها من دوافع وأفكار محركة. ولذت المعرفة لنفسك= النفس هي مجموعة الشهوات والرغبات والميول. فالعقل يحفظك= أي تكون لك البصيرة ويكون لك الرأي السديد الذي به ترى الطريق الصحيح والفهم ينصرك= أي يكون لك التمييز بين ما ينفعك وما يضرك. من المتكلم بالأكاذيب= أي من يتكلم بالغش والخداع سواء في الروحيات أو العقيدة أو أي شئ أخر ليجذب النفس البارة لطريق معوج. ومن يفعل هذا فهو لا علاقة له بالله، بل يهاجم الله وكلام الله مباشرة أو يهاجم العقيدة الصحيحة مدعياً أنه وحده الذي يعرف الله. هو إنسان له مظهر الحكمة ولكنها حكمة عالمية غاشة بها يخدع ويجذب البسطاء وعديمي الحكمة الذين لم يحصلوا على حكمة إلهية من فوق. وعادة يكون المتكلم بالأكاذيب شخص له كبرياء وإعجاب بالذات، يجذب حوله عديمي الخبرة. ولكن حين يملك حق الله على القلب فإنه ينقذ من طريق الشرير= أي يحفظ الإنسان من السلوك في نفس طريق الأشرار. والمطلوب حتى ينجو الإنسان من طريق الأشرار أن تدخل الحكمة للقلب وتلذ المعرفة للنفس أي أن المطلوب أن لا تكون الحكمة مجرد أفكار نظرية في العقل بل يبدأ الإنسان في ممارسة ما تعلمه من كلمة الله ويشعر بقوة كلمة الله ولذة السلوك في وصاياه فيكون لهذه اللذة وهذه الخبرات قوة دافعة للإنسان تملك على مشاعره فيزداد إصراراً على السلوك في طريق الله. فحين تملك الحكمة على إنسان تحكم كل حياته كما تؤثر الخميرة على العجين كله، بل يملك المسيح على القلب بل كل الحياة بل يغير الإنسان إلى صورته. وحينئذ تلذ المعرفة للنفس أي يكون تنفيذ الوصايا ليس عن طريق الضغط والكبت ولكن بحرية وسرور. وربما يكون السلوك بالحق والطهارة غير مرضي للجسد تماماً، لأن الجسد والخطية ساكنة فيه والشهوة موجودة فيه سيقاوم الروح ولكن الروح سيقاوم الجسد ويرضى بالحق الذي يسلك فيه الإنسان، وحينئذ تمتلئ الحياة سلاماً وعزاء وفرحاً لا يعرفه سوى من اختبر حياة التقوى ولا يختبر هذا السلام من يسلك في حياة العالم الشرير بملذاتها. وهذه هي لذة النفس الحقيقية أي سلام الله يحصل عليها من يعرفه.
الحكمة تحفظ من المرأة الأجنبية (16-22)
الآيات السابقة تكلمت عن العقل غير المقدس، وخداع الأشرار العقلي الذي يتحدى الله. وهنا نرى الشهوات الجسدية، فالخداع العقلي يقود لطريق الشهوة الجسدية وغوايتها. المرأة الأجنبية= أطلق هذا التعبير أولاً على المرأة الأممية الزانية، فالنساء الوثنيات كن يتسللن من الأمم المجاورة الوثنية ليضللن ويغوين شباب شعب الله (عد1:25،2). وهي دعيت أجنبية لأنها امرأة رجل آخر ولأنها ليست زوجة للشاب العبراني الذي تزنى معه ولأنها ليست عبرانية ولأنها تعبد إله وثني، فعبادتها لأوثانها تختلف عن عبادة شعب الرب، العبادة المقدسة، بل هي ستجذب شعب الرب لعبادة أوثانها (وهذا حدث أيام غواية بلعام وحدث مع سليمان نفسه للأسف). ولأنها بإنحرافها لا تسلك في شريعة الرب المقدسة. وعموماً كانت الشريعة تحتم رجم الزانية فلم يكن يوجد زواني سوى من الأجنبيات الوثنيات وكانت الكنعانيات يمارسن الزنا كطقس ديني، ولذلك كان كثير من رجال شعب الرب ينجذب لهذه العبادة النجسة. أليف صباها= أي زوجها الشرعي (أر1:3-4) الناسية عهد إلهها= أي عهد زواجها، الذي قطعته على نفسها باسم إلهها أن تظل أمينة لزوجها، فهذه المرأة الأجنبية هي خائنة، زانية ومتمردة على إلهها ومتمردة على زوجها بل متمردة على كل أدب وفضيلة وهي خائفة:- [1] لألهها الذي كسرت شريعته [2] لزوجها [3] للشاب الذي تزنى معه فهي تدعى أنها تحبه وهي تريد أن تقوده بشهوتها لخسارة ماله أو إرضاء لشهواتها، وهي ستقوده للخراب عموماً. وبهذا المفهوم تصبح المرأة الإسرائيلية أجنبية لو عاشت حياة الزنا. وبنفس المفهوم لم تُحسب راعوث أجنبية لسلوكها بحسب شريعة الرب "إلهك إلهي" (را16:1) المتملقة بكلامها= هي تدَّعي الحب وشفتاها تقطران عسلاً لكن عاقبتها مُرَّة (أم3:5،4) وفي (18) بيتها يسوخ إلى الموت= أي يهوى إلى أسفل حتى يتوارى عن الأنظار (كما حدث مع قورح وقومه) فكل خطوة إلى بيت الزانية هي خطوة تجاه الموت فطريق الزنا هو طريق الخراب. الأخيلة= الأموات في هاوية العذاب. يؤوب= يرجع ويعود (آية19). لا يبلغون سبل الحياة= أي لا نصيب لهم في قيامة الحياة وهنا نرى نهاية من يسلك في طريق الزنى، فهو طريق الخراب للزانية وبيتها ومن يزنى معها. بل أن هلاكهم أبدي ومصيرهم مع الأخيلة في هاوية الجحيم. وهنا تحذير بأن من يبدأ هذا الطريق يصعب رجوعه فهو كلما سلك في طريق لذة الجسد ينجذب بالأكثر فتضعف مقاومته، وكلما مارس هذه الخطية يتقسى قلبه بالزيادة ويظلم عقله بخداعات الخطية فلا يعود يرى سوى اللذة البهيمية الجسدانية الشهوانية في هذه الخطية لذلك يصعب رجوعه بل ربما يستحيل رجوعه= كل من دخل إليها لا يؤوب.
وفي الآيات (20-22) يعرض نصيب من يسلك بالحكمة رافضاً طريق الأشرار الخطاة ورافضاً غواية المرأة الزانية. فهم يسكنون الأرض= وهذا بمفهوم العهد القديم. وبمفهوم العهد الجديد يكون لهم نصيباً سماوياً مع القديسين. وهذه دعوة من سليمان لكل واحد حتى يسلك في طريق الصالحين= أي من اختاروا أن يسيروا في طريق الله، ويسلكون معه بأمانة، هذا قد يخطئ فالصديق يسقط في اليوم 7 مرات لكنه يقوم أي يقدمون توبة فورية كمن لا يستطيع أن يبقى في هذا الجو الغريب. ومن هم الكاملين= هؤلاء الذين كرسوا قلبهم تماماً لله. وعكس هؤلاء فهم الغادرون= أي الرافضين لله في عدم إيمان وتصرفاتهم فيها خيانة لله وهؤلاء يستأصلون= لا بركة لهم على الأرض وقد ينهي الله حياتهم على الأرض كما فعل بأهل سدوم وكما فعل في الطوفان وهم لا نصيب سماوي لهم في القيامة الأبدية.