هل ضاعت أسفار من الكتاب المقدس؟
أوحى الله بالتوراة والإنجيل ووعد بحفظهما من التحريف والتبديل، وهو دائماً يصدق وعده. ويتَّضح حفظه لوحيه من الاتفاق التام بين التوراة والإنجيل. فمع أنهما يشتملان على 66 كتاباً أُوحي بها في 16 قرناً، لستة وثلاثين نبياً إلا أن كل هذه الأسفار في غاية الاتفاق في إعلان فداء البشر بواسطة فادٍ كريم ينتشلهم من عبودية الخطية.
وتشتمل أسفار التوراة أو (كتب العهد القديم) على 39 كتاباً، وهي: التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية، ويشوع، والقضاة، وراعوث، وصموئيل الأول والثاني، والملوك الأول والثاني، وأخبار الأيام الأول والثاني، وعزرا، ونحميا، وأستير، وأيوب، والمزامير، والأمثال، والجامعة، ونشيد الأنشاد. ونبوَّات إشعياء، وإرميا ومراثيه، ونبوَّات حزقيال، ودانيال، وهوشع، ويوئيل، وعاموس، وعوبديا، ويونان، وميخا، وناحوم، وحبقوق، وصفنيا، وحجي، وزكريا، وملاخي. فهذه كتب بني إسرائيل المقدسة التي حافظوا عليها بغاية الحرص.
أما كتب العهد الجديد فعددها 27 وهي: إنجيل متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا. وأعمال الرسل. ورسائل بولس الرسول إلى روما، ورسالتاه إلى كورنثوس، ورسالته إلى غلاطية، وأفسس، وفيلبي، وكولوسي، ورسالتاه إلى تسالونيكي، ورسالتاه إلى تيموثاوس، ورسالته إلى تيطس، وفليمون، والعبرانيين، ثم رسالة يعقوب، ورسالتا بطرس الأولى والثانية، ورسائل يوحنا الثلاث، ورسالة يهوذا. ورؤيا يوحنا.
ويتمسك بنو إسرائيل بالقسم الأول (التوراة) وهو كتب موسى والمزامير والأنبياء. أما المسيحيون فيتمسكون بالقسمين (التوراة والإنجيل) وهما مرجعهما في العقيدة، لأن مضمون التوراة والإنجيل واحد.
سلامة أسفار العهد القديم
قال المعترض: «ضاع من الكتب المقدسة الكثير الذي ورد ذكر اسمه في التوراة، مثل سفر الحروب (عدد 21: 14) وسفر ياشر (يشوع 10: 13) وثلاثة كتب لسليمان (1ملوك 4: 32-34)، وكتاب قضاء المملكة للنبي صموئيل (1صموئيل 10: 25) وتاريخ صموئيل، وتاريخ ناثان النبي، وتاريخ جاد الرائي (1أخبار 29:29، 30)، وكتاب شمعيا، وعدّو الرائي، وأخيا النبي، ورؤى يعدو الرائي (2أخبار 9: 29)، وياهو النبي ابن حناني (2أخبار 20: 34)، وكتاب إشعياء النبي عن الملك عزّيا (2أخبار 26: 22)، ورؤيا إشعياء النبي عن حزقيا (2أخبار 32:32)، ومرثية النبي إرميا على يوشيا (2أخبار 35: 25)، وكتاب تواريخ الأيام (نحميا 12: 23). فجملة ما ضاع نحو عشرين كتاباً».
وللرد نقول: نذكر شيئاً عن كل كتاب من هذه:
(1) سفر الحروب وسفر ياشر: يروي سفر الحروب أخبار نصرة موسى على عماليق، وبعض القوانين لإرشاد يشوع في حروبه. ولم تُكْتَب بوحي إلهي، ولم يُكلّف الله موسى أن يبلغها لبني إسرائيل، فلم يُدرجها بنو إسرائيل ضمن الكتب الموحى بها.
أما «سفر ياشر» ومعناه «سفر المستقيم» فقد قال بعض أئمة بني إسرائيل إن المقصود به سفر التكوين لأنه يتضمن قصة إبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم من المستقيمين. وقال بعضهم إن المقصود به سفر التثنية (تثنية 6: 18، 23: 7). وقال البعض الآخر إن المقصود به سفر القضاة، فعلى هذا يكون سفراً موجوداً. وقال البعض إنه لما كان هذا السفر يذكر بعض ما حدث لبني إسرائيل مثل وقوف الشمس مدة يوم كامل، ولما كان يشتمل على قوانين حربية، ونصائح عسكرية، واستعمال القوس (كما في 2صموئيل 1: 18) فيكون أنه لم يُكتَب بوحي إلهي، بل دوّنه أحد المؤرخين الذي كان يدوّن حوادث عصره. على أنه يوجد إلى يومنا كتاب باللغة العبرية يسمى «ياشر» ويشتمل على قصائد وطنية تذكر الأبطال الأتقياء الذين اشتهروا بالشجاعة. وبما أنه ليس وحياً إلهياً، فلا فرق عندنا إن كان موجوداً أو غير موجود.
وقد ذُكر سفرا الحروب وياشر لبرهنة حقيقة. وقد جرت العادة اقتباس أقوال مشهورة ومقبولة عند الخصم لإقناعه. ومن أمثلة هذا: (أ) استشهاد بولس الرسول بشطر من أقوال «أراتس» وهو «لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد» (أعمال 17: 28) ليقنع أهل أثينا بوجود الله. (ب) واستشهاده بعبارة قد تكون مأخوذة من قصيدة للشاعر «مناندو» وهي «المعاشرات الردية تُفسد الأخلاق الجيدة» (1كورنثوس 15: 33). (ج) واستشهاده بقول الشاعر الكريتي «»أبيمانيدس»: «إن الكريتيين دائماً كذابون وحوش ردية بطون بطالة» (تيطس 1: 12). فيجوز اقتباس الأقوال المتَّفق عليها لبرهنة حقيقة صادقة.
(2) أسفار سليمان الثلاثة: ورد في 1ملوك 4: 32-34 «وتكلم (سليمان) بثلاثة آلاف مثَل، وكانت نشائده ألفاً وخمساً. وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط. وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك. وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته».
(أ) يقول «تكلم سليمان بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفاً وخمساً» ولا يقول إنها تدوَّنت في كتب، بل إن سليمان فقط تكلَّم بها. ومع أنها عامرة بالحكمة إلا أنها ليست وحياً إلهياً. ولو كانت وحياً لدوَّنها بنو إسرائيل وحافظوا عليها. والمقصود هنا وصف حكمة سليمان العظيمة التي لم يصل إليها أحد قبله ولا بعده.
(ب) ألّف سليمان عن النباتات والحيوانات والطيور، وهذه حقائق علمية لا فقهية، لا يلزم أن يُكلَّف كل إنسان بمعرفتها. ومع أن العلماء الباحثين في التاريخ يأسفون لضياع هذه المؤلفات إلا أنها ليست كتابات دينية.
(3) كتاب قضاء (قوانين) المملكة: جاء في 1صموئيل 10: 25 «فكلم صموئيل الشعب بقضاء المملكة، وكتبه في السفر، ووضعه أمام الرب». ولا يُفهم من هذه العبارة أنه أُوحي لصموئيل بسفر غير السفرين اللذين عندنا، لكن المقصود أن صموئيل دوّن القوانين الدستورية بين الملك والشعب. وقد اعتاد بنو إسرائيل على هذا، فلما تولَّى داود المملكة قطع عهداً مع شيوخ بني إسرائيل (2صموئيل 5: 3). ولما تولى رحبعام المملكة طلب منه بنو إسرائيل أن يقطع معهم عهداً بالرفق بهم، ولما رفض انشقوا عنه (1ملوك 12: 4-24). ولما تولى يهوياداع المملكة قطع عهداً بينه وبين الله وبين الأمة (2ملوك 11: 17). وعلى هذا القياس دوّن صموئيل القوانين الدستورية ببيان امتيازات الملك ومسؤولياته، ووضع هذا القانون الدستوري أمام الرب شهادة على أن كل فريق سيقوم بما عليه من الواجبات، وسلّمه للكهنة تثبيتاً لهذا. ولا نفهم من هذا أن صموئيل كتب سفراً موحى به وضاع.
(4) كتب أخرى: ونقرأ في 1أخبار 29:29، 30 »وأمور داود الملك الأولى والأخيرة هي مكتوبة في سفر أخبار صموئيل الرائي، وأخبار ناثان النبي، وأخبار جاد الرائي«. وتاريخ داود النبي مذكور بالتفصيل في سفر صموئيل النبي، وفي سفر الملوك وفي سفر أخبار الأيام الأول. وهذه الكتب بأيدينا نتعبد بتلاوتها ونستفيد من مطالعتها، فلم يضِعْ شيء من تاريخ هذا النبي الفاضل. والمقصود في ما جاء في 1أخبار 29:29، 30 هو الاستشهاد بأسفار صموئيل والملوك وأخبار الأيام، وهي موجودة. وسفرا صموئيل النبي هما من كتابة صموئيل النبي ومعنونان باسمه. أما سفرا الملوك وسفرا الأخبار فكتبها عددٌ من الأنبياء، فكل نبي دوَّن حوادث عصره، ومن هؤلاء الأنبياء: ناثان وجاد، والدليل على ذلك أن تواريخ بني إسرائيل موجودة بالتفصيل في التوراة.
وهناك كتب ورد ذكرها في العهد القديم موجودة، ولكنها سُمِّيت بأسماء أخرى، فكتب صموئيل والملوك والأيام لم يكتبها نبي واحد، بل كتبها عدّة أنبياء الواحد بعد الآخر، لأنه لم ينقطع قيام الأنبياء بين بني إسرائيل إلا عند ختام كتب العهد القديم. فكان إذا أراد الله تدوين تواريخ أو أخبار لنقلها إلى الخَلَف، أوحى إليهم ذلك. وعلى هذا كتب النبي جاد وناثان وعدّو وشمعيا وغيرهم أجزاء من هذه الكتب. ومما يؤيد أن عِدَّة أنبياء دوّنوا هذه التواريخ أن إشعياء النبي كتب في نبوَّته أربعة أصحاحات وردت في سفر الملوك الثاني، مما يدل على أنه هو الذي كتبها في الأصل (انظر 2ملوك 18-20 وقارنها بما ورد في إشعياء 36-39).
ومما يدل على عدم إمكان ضياع شيء من العهد القديم ما يأتي:
(1) حفظ الله بعنايته الإلهية الكتب التي أوحى بها، وأراد بها تعليم شعبه طريق الخلاص والحياة الأبدية، فلا يُعقل أنه سبحانه يسمح لأحد بإحباط عمله. وقد حفظ هذه الكتب سليمة من التحريف، منزَّهة عن النقص مئات السنين في وسط التقلبات الجسيمة، ولا سيما عندما كان يحاول الكفرة ملاشاة ديانة بني إسرائيل.
(2) حرص بنو إسرائيل على كتبهم المقدسة، وأظهروا غاية التحفُّظ واليقظة في حفظها.
(3) تُرجم العهد القديم إلى اليونانية نحو 300 سنة قبل المسيح، مما يدل على أنه لم يضع منه شيء.
(4) شهد المسيح ورسله للكتب المقدسة أنه لم يضِع منها شيء، واستشهدوا بها وحضّوا على مطالعتها مما يدل على سلامتها.
سلامة أسفار العهد الجديد
قال المعترض: «هناك 11 رسالة منسوبة للمسيح ضيَّعها المسيحيون، كما ضيَّعوا تسع رسائل ليوحنا، ورسالتين لكل من أندراوس ومتى وفيلبس، وإنجيلاً لبرثلماوس، وإنجيل توما وأربعة من أعماله، وإنجيل يعقوب ورسالتين له، وإنجيل متياس وعملين له».
وللرد نقول: ظهرت كتب ذكرها المعترض ترجع إلى أواخر القرن الثاني، وظهر أغلبها في القرن الثالث، وقد رفضها المسيحيون وكذَّبوها فور ظهورها. فلم يسمع أحد عن «رسالة أبجر أمير الرها» و«رسالة يسوع المسيح» إلا في القرن الرابع، عندما تحدث عنها يوسابيوس. وأما «رسالة بولس الرسول إلى لاودكية» فقال العلامة جونس إن أحد الرهبان ألَّفها قبل الإصلاح اللوثري، وبناها على بعض آيات من رسائله الصحيحة، فهي حديثة عهد، ولم تُكتب باليونانية لغة الرسول. أما رسائله الست إلى «سنيكا» وثماني رسائل هذا الفيلسوف إليه، فهي ترجع إلى القرن الرابع، وذكرها إيرونيموس وأغسطينوس ونبَّها على أنها مفتعلة. أما إنجيل «ولادة مريم» فوُجد في القرن الثالث، وكان يعتقد به كثير من أصحاب البدع والضلالات، واشتهر بالأقوال المتناقضة، وهو يشبه «إنجيل يعقوب» ومؤلفه هو أحد اليهود اليونانيين، فدحضه قدماء المسيحيين وأئمتهم. أما «إنجيلا الطفولية» المنسوبان إلى توما فكان يعتقد بهما المرقيونيون. أما «إنجيل نيقوديموس» المسمى أيضاً «أعمال بيلاطس» فلفّقه لوسياس شارينوس في أوائل القرن الرابع، واشتهر بأنه لفق أيضاً أعمال بطرس وبولس وأندراوس وغيرهم من الرسل. أما كتاب «عقائد الرسل» فلم يُسَمّ بهذا الاسم لأن الرسل هم الذين كتبوه، بل لأنه يشتمل على عقائدهم، وعلى أقوال كيرلس الذي كان أسقفاً في أورشليم في القرن الرابع. أما «أعمال بولس وتكلا» فألّفه أحد القسس المسيحيين في أوائل القرن الثاني، واعترف بأن الباعث الذي حمله على ذلك إعجابه ببولس، فجرَّدوه عن وظيفته.
وقال القديس أوريجانوس: «تتمسك الكنائس المسيحية بأربعة أناجيل فقط. أما أصحاب البدع فعندهم أناجيل كثيرة مثل إنجيل المصريين وتوما. ونحن نطالعها لكي لا نُرمَى بالجهل، ولأن الذين يتمسكون بها توهَّموا أنهم أُوتوا علماً عظيماً». وقال القديس أمبروز: «إننا نقرأها لا لأننا نقبلها، فإننا نرفضها رفضاً باتاً. وإنما نقرأها لنعرف ما فيها».
وإليك الحقائق التالية للرد على الاعتراض:
(1) تأمر المسيحية بالبحث والدرس طاعةً لأمر المسيح: «فتّشوا الكتب» (يوحنا 5: 39) وقال يوحنا: «امتحنوا الأرواح هل هي من الله؟ لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم» (1يوحنا 4: 1). يعني: استعمِلوا عقولكم للتمييز بين الهُدى والضلالة.. كما أنها تحذِّرنا من قبول تعاليم ملتوية، بحسب النصيحة: «إن كان أحدٌ يبشّركم بغير ما قبلتُم، فَلْيكن أناثيما (أي محروماً من الله)» (غلاطية 1: 8، 9). وطاعةً للقول: «تمسَّك بصورة الكلام الصحيح (أي الألفاظ والحروف)» (2تيموثاوس 1: 13). قال الله: «إن كان أحد يزيد على هذا (كتاب الله) يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب، وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوَّة، يحذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة ومن المكتوب في هذا الكتاب» ( رؤيا 22: 18، 19).
(2) لم يذكر المسيحيون الأولون من عصر الرسل أسماء أيٍّ من هذه الكتب في مؤلفاتهم العديدة، لا في مؤلفات أكليمندس أسقف روما ولا أغناطيوس ولا بوليكاربوس ولا هرماس، وقد كتبوا من سنة 70-108م. ولم تُذكر في الجداول التي دُوّنت فيها أسماء الكتب المقدسة.
(3) كان جميع المسيحيين يتعبدون بتلاوة أسفار العهد الجديد كما هي بين أيدينا اليوم، كما كان اليهود يتعبدون بتلاوة التوراة في مجامعهم. فيقول بولس الرسول: «ومتى قُرئت عندكم هذه الرسالة فاجعلوها تُقرأ أيضاً في كنيسة اللاودكيين، والتي من لاودكية تقرأونها أنتم أيضاً» (كولوسي 4: 16). وشهد يوستين الشهيد في أوائل القرن الثاني المسيحي أنه جرت عادة المسيحيين أن يجتمعوا في يوم الأحد للتعبُّد بتلاوة رسائل الرسل وأقوال الأنبياء. وقال ترتليان إن المسيحيين يجتمعون لقراءة الكتب المقدسة في يوم الأحد ويرتلون المزامير. وهكذا شهد كبريان وديونسيوس وغيرهما من قدماء المؤلفين. وقرر مجلس لاودكية ومجلس قرطاجنة عدم جواز تلاوة غير الكتب الإلهية.
(4) تُرجمت الكتب المقدسة إلى لغات شتى كما هي بين أيدينا اليوم، وكُتبت عليها التفاسير.
(5) لم يذكر أعداء الديانة المسيحية (الذين كان دأبهم إيراد الآيات من الأربعة الأناجيل للتهكم عليها أو تحريف معناها) شيئاً من الكتب التي ذكرها المعترض. ولو كانوا يعلمون بوجودها، وأن المسيحيين يعوّلون عليها، لساعدتهم على أغراضهم السيئة.
علماء مسيحيون يوردون جدولاً بأسفار الإنجيل الموحى بها يطابق ما بين أيدينا اليوم:
(1) كتب أئمة المسيحية جداول بأسماء الكتب المقدسة، كان أولها جدول العالِم العظيم أوريجانوس الإسكندري، (بعد يوحنا الرسول بمئة سنة). وجدوله محفوظ في باريس، وذكره يوسابيوس في تاريخه، وفيه الأربع بشائر وأعمال الرسل ورسائل بولس الأربع عشرة ورسالتي بطرس وثلاث رسائل يوحنا وكتاب الرؤيا. وهو الموجود عندنا اليوم. ولم يذكر الكتب المفتعلة، مما يدل على أن المسيحيين لم يعرفوا سوى كتبهم الموحى بها.
(2) اجتمع مجمع الأساقفة في لاودكية، وكان من قراراته كتابة جدول بأسماء كتب العهد الجديد، وهي ذات الكتب التي بأيدينا الآن، وبعد التئام هذا المجلس بسنين قليلة كتب أسقف سلاميس في جزيرة قبرص كتاباً ضد البدع، كتب فيه جدولاً بأسماء كتب العهد الجديد، وهي ذات الكتب التي بأيدينا تماماً. وفي ذات العصر كتب غريغوريوس النازيانزي أسقف الأستانة قصيدة ذكر فيها أسماء كتب العهد الجديد.
(3) كتب إيرونيموس (جيروم) الذي ترجم التوراة إلى اللاتينية جدولاً بأسماء كتب العهد الجديد، وهي ذات الكتب الموجودة عندنا.
(4) التأم مجمع كنسي في قرطاجنة، حضره القديس أغسطينوس أسقف هبّو، وكتب جدولاً بكتب العهد الجديد يطابق الموجود عندنا الآن.
الأدلة الداخلية على بطلان الكتب التي ذكرها المعترض:
(1) هذه الكتب المفتعلة تحاول تأييد تعليم منافٍ للحق. فهي مثلاً تعلّم قداسة «ذخائر القديسين». جاء في إنجيل «طفولية المسيح» أنه لما أتى المجوس من المشرق إلى أورشليم، حسب نبوَّة زردشت، وقدموا هداياهم، أعطتهم القديسة مريم بعض الأقماط التي كان الطفل ملفوفاً فيها على سبيل التبرُّك، فقبلوها باحترام عظيم.. ولما كان البعض يميل إلى رفع القديسة مريم فوق رتبتها، ولم يجدوا في كتاب الله ما يؤيد رأيهم، لفّقوا «إنجيل ولادة مريم» وقالوا فيه إن الملائكة أنبأوا عن ولادتها. ونسبوا إليها في «إنجيل يعقوب» وفي «إنجيل الطفولية» معجزات فعلتها بنفسها أو بمساعدة الطفل يسوع، وغير ذلك مما كانت تجهله أهل القرون الأولى، وإنما ظهرت هذه البدع في القرنين الرابع أو الخامس.
(2) تروي البشائر الأربع الحقائق والأحداث ببساطة، بدون تصنُّع ولا تكلّف. ولم يتردد الرسل عن ذكر أي شيء حتى وإن كان لا يلائم ميولهم، ممّا يدل على أن الحوادث التي ذكروها هي من وحي الله. هذا بخلاف الكتب المفتعلة، فإنها مشحونة بالحوادث التافهة الفارغة مما يدل على بطلانها، فمثلاً جاء في «إنجيل ولادة مريم» أن المسيح صعد بدون مساعدة أحد على دَرْج الهيكل بمعجزة لما كان عمره ثلاث سنين، وكان ارتفاع كل درجة نصف ذراع، وأن الملائكة كانت تخدم مريم في طفوليتها. وكذلك ذُكر في الإنجيل المنسوب إلى يعقوب الأصغر محاورة فارغة بين والدة مريم وخادمتها، وورد أن الملائكة كانت تخدم مريم. وذكر إنجيل توما قصصاً تافهة عن طفولة المسيح وتربيته، ونُسبت إليه معجزات انتقام عند تعلُّمه الأبجدية. وروى إنجيل مريم وطفولية المسيح وتوما معجزات فارغة قامت بها العذراء مريم والمسيح في طفولته، مثل مساعدة مريم ليوسف في حرفته، فإذا أخطأ أصلحت خطأه في صناعته. مع أن الغاية من المعجزة تأييد الرسالة والتعليم.
(3) ذكرت هذه الكتب المفتعلة أشياء لم تحصل إلا بعد عصر المؤلف المنسوب إليه هذا الكتاب، فذكر فيه: «طوباك يا أبجر لأنك آمنت بي مع أنك لم ترَني، لأنه مكتوب عني: لكي لا يؤمن الذين رأوني، ويؤمن الذين لم يروني». يشير بهذا إلى قول المسيح لتوما: «طوبى للذين آمنوا ولم يروا» (يوحنا 20: 29). ولا يخفى أن يوحنا الرسول كتب إنجيله بعد أن مات كل الذين نُسبت إليهم هذه الكتب. وورد في «إنجيل نيقوديموس» أن اليهود خاطبوا بيلاطس بكلمة «سموّكم» وهي كلمة لم يعرفها اليهود، ولم تكن مستعملة وقتها. وذكر فيها أن المسيح أشار بعلامة الصليب على آدم وجميع القديسين في جهنم قبل إنقاذهم، مع أن علامة الصليب لم تشتهر إلا في القرن الرابع.
(4) يتنافى أسلوب الكتب المفتعلة مع طريقة وكيفية تدوين الوحي الإلهي الصحيح:
( أ) فالأسماء التي ذُكرت في إنجيل نيقوديموس بدعوى أنها أسماء يهود هي أسماء يونانية ورومانية وغيرها، مما يدل على كذب هذه الكتب. (ب) وإنجيل نيقوديموس الموجود الآن، ليس باللغة اليونانية (لغة الوحي) بل باللاتينية. (ج) والرسائل المنسوبة إلى بولس الرسول ليس عليها مسحة أقوال الرسول الإلهية، بل هي مجرد تحيات، فافتتحت الرسالة إلى سنيكا بقوله: «أتمنى رفاهيتكم وخيركم يا أخي». وخُتمت الرسالة الخامسة إلى سنيكا بقوله: «أودعكم في أمان الله أيها الأستاذ الأكرم». وهي منافية لطريقة بولس، ومنافية لأسلوب كتابة ذلك العصر، ولم يستعملها الناس إلا بعد عصر الرسول بولس بمئات السنين.
(5) نسبت هذه الكتب إلى الرسل أشياء منافية للتواريخ المقدسة وغيرها، فتروي «رسالة أبجر أمير الرها» أن أبجر اعترف بأن المسيح هو الله، وبعد ذلك طلب منه أن يقيم في الرها لينقذه من مكائد اليهود. وهذا تناقض، لأنه إن كان أبجر آمن بأن المسيح هو الله فيكون قادراً على إنقاذ نفسه. وذكر في المكاتبات التي ادَّعوا حصولها بين بولس وسنيكا أن بولس كان في روما، ثم قال إنه لم يكن فيها، واشتكى من غيابه في الرسالة الخامسة إلى الثامنة. وذكرت في هذه الرسائل أسماء قناصل روما محرَّفة، ومرة قيل إن بولس حذر سنيكا من إعلان إيمانه المسيحي أمام نيرون، وهذا منافٍ لتعليم بولس عن ضرورة إعلان الإيمان والمناداة به. وفي «إنجيل نيقوديموس» قيل إن بيلاطس ذكر تاريخ بني إسرائيل، وفي مكان آخر قيل إنه كان يجهله.
.