إرســالية المخــلص
فى الإصحاح السابق يعلن المخلص عن إرساليته قائلا : " والآن السيد الرب أرسلنى وروحه " إش 48 : 16 .
الآن يتحدث عن هذه الإرسالية الفريدة التى فيها يخلى الإبن ذاته لكى يمجدنا فيه ، نازعا عار المذلة ، فيقيمنا عروسا سماوية وملكة تجلس مع المسيح الملك ، مشبعا كل احتياجتنا .
( 1 ) اتضاع المخلص وتمجيده
فى الإصحاح السابق كان الحديث موجها إلى بيت يعقوب المعوين بأسم إسرائيل ( إش 48 : 1 ) ، أما الحديث هنا فموجه إلى الأمم ، إذ يقول : " اسمعى لى أيتها الجزائر ، وأصغوا أيها الأمم من بعيد " إش 49 : 1 .
يتحدث السيد المسيح المخلص إلى الأمم معلنا الآتى :
أ – مدعو من البطن : " الرب من البطن دعانى " إش 49 : 1 . يظن بعض الدارسين أن المتحدث هنا باسم إسرائيل بكون الله اختار شعبه قبل أن يوجد ، وهو فى صلب إبراهيم وفى أحشاء سارة ، وظن البعض أنه كورش الذى اختاره الله لتحقيق رسالته قبل أن يوجد ، لكن الواضح أن الحديث هنا باسم السيد المسيح ، كلمة الله المتجسد ، فقد كرز رئيس الملائكة جبرائيل للعذراء بميلاده قبل أن تحبل به ودعى يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم ( مت 1 : 21 ) ، لذا قيل " من أحشاء أمى ذكر اسمى " إش 49 : 1 .
ب – صاحب سلطان : " وجعل فمى كسيف حاد " إش 49 : 2 .
وقد قيل عن السيد المسيح : " وسيف ماض ذو حدين يخرج من فمه " رؤ 1 : 16 ، كما قيل عنه أنه كان يتكلم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين ( مت 7 : 29 ) . لقد دخل المعركة ضد عدو الخير إبليس بكلمته التى هى كسيف ذى حدين ( عب 4 : 12 ) .
جـ - اختفاء سر المسيح وعمله الخلاصى الإنجيلى ودعوته الأمم للإيمان وراء ظلال الناموس الموسوى والنبوات ، إذ يقول " فى ظل يده خبأنى " إش 49 : 2 . لعله عنى بهذا القول أيضا ما حدث فى طفولته حيث ثار هيرودس عليه وأراد قتله فأرسل الآب ملاكا ليوسف يأمره بالهروب إلى مصر . لقد صار الكلمة جسدا ، ابن الله صار إبنا للبشر ، لهذا فى إتضاعه سار فى طريقنا كواحد منا يرعاه الآب بحمايته كما فى ظل يده ، وهو قادر أن يأمر الطبيعة فتهلك هيرودس وكل مقاوميه .
" وجعلنى سهما مبريا ( لا يصدأ ) ، فى كنانته أخفانى " إش 49 : 2 .
بكونه كلمة الله فهو سهم لا يصدأ ، اختفى وراء الظلال والرموز حتى جاء ملء الزمان فأعلن ذاته خلال الصليب كسهم صوب ضد إبليس وجنوده فجردهم من سلطانهم وأشهرهم جهارا ظافرا بهم ( كو 2 : 15 ) . إنه السهم القاتل للشر ، وواهب جراحات الحب الإلهى للنفوس المؤمنة التى تصرخ " إنى مريضة حبا " نش 2 : 5 ، 5 : 8 .
د – بالصليب خضع الإبن مطيعا للآب ، صار من أجلنا عبدا لكى يتمجد الآب فيه ، ويتمجد هو أيضا فى ضعف الصليب :
" وقال لى : أنت عبدى إسرائيل الذى به أتمجد ، أما أنا فقلت : عبثا تعبت باطلا ، وفارغا أفنيت قدرتى ، لكن حقى عند الرب وعملى عند الهي " إش 49 : 4 .
يتساءل البعض : من هو عبده إسرائيل ؟ إنه السيد المسيح الذى جاء من اليهود ، وقبل بإرادته العبودية مع أنه مساو للآب فى الجوهر ( فى 2 : 7 ) . جاء كعبد ليرفع العبيد فيه إلى البنوة لله ، بهذا مجد الآب وتمجد هو أيضا خلال الضعف ، إذ يقول الرسول :
" وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ، لذلكرفعه الله أيضا وأعطاه اسما فوق كل اسم ، لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب " فى 2 : 8 – 11 .
فى لحظات الآلام حين ظهر رب المجد كما فى ضعف قال : " أنا مجدتك على الأرض ، العمل الذى أعطيتنى لأعمل قد أكملته ، والآن مجدنى أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذى كان لى عندك قبل كون العالم " يو 17 : 4 ، 5 .
الصليب أيضا مجد لأنه صالح الآب مع البشر ، وفتح أمامنا باب الفردوس لنشارك الرب مجده ونعيش معه نسبحه مع السمائيين .
يرى البعض أن ما قيل هنا أيضا يخص الكنيسة المختفية فى المخلص بكونها إسرائيل الجديد هذه التى تمجد الله خلال قبولها شركة الآلام والصلب مع مسيحها فتنعم بقوة قيامته وبهجتها ، لهذا استحقت أن تسمع الصوت الإلهى : " أنت عبدى إسرائيل الذى به أتمجد " . أما هى ففى آلامها تقول : " عبثا تعبت باطلا وفارغا أفنيت قدرتى ، لكن حقى عند الرب وعملى عند الهي " إش 49 : 4 .
هـ - نجاح رسالة السيد المسيح فى ضمه الأمم إلى الإيمان : إن كان السيد قد ظهر على الصليب فى ضعف حتى فارقه الجميع ، إذ جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله ( يو 1 : 11 ) ، صار مجروحا فى بيت أحبائه ( زك 13 : 6 ) ، فقال : " عبثا تعبت باطلا ، وفارغا أفنيت قدرتى " إش 49 : 4 ، هذا هو مظهر الصليب الخارجى ، أما عمله الداخلى فيعلنه الآب بقوة قائلا للمصلوب : " قليل أن تكون لى عبدا لإقامة أسباط يعقوب ، ورد محفوظى إسرائيل ، فقد جعلتك نورا للأمم لتكون خلاصى إلى أقصى الأرض " إش 49 : 6 .
وكأنه يقول للأبن المصلوب : إن عملك الفدائى لا يمكن أن يحد ثمره فى حدود شعب معين وإنما يمتد إلى أقصى الأرض فتكون نورا للأمم وسر الخلاص الإلهى لكل البشر .
عندما حمل سمعان الشيخ الطفل يسوع قال : " لأن عينى قد أبصرتا خلاصك الذى أعددته قدام وجه جميع الشعوب ، نور إعلان للأمم ومجدا لشعبك إسرائيل " لو 2 : 30 ، 31 . كما قال بولس وبرنابا : " لأنه هكذا أوصانا الرب ، قد أقمتك نورا للأمم لتكون أنت خلاصا إلى أقصى الأرض " أع 13 : 46 ، 47 .
من كلمات القديس أغسطينوس :
+ ربى وإلهى .. يا نور نفسى ! لا تتوقف قط عن إنارة خطواتى !
الهي .. أنت رجائى .. بدون نورك – الذى به نعاين كل شىء – يصعب علينا أن نكتشف مناورات الشيطان وحيله .
+ أنت هو الكلمة القائل : " ليكن نور " ، فكان نور . قل هذه العبارة الآن أيضا حتى تستنير عيناى بالنور الحقيقى ، وأميزه عن غيره من النور ، فبدونك كيف أقدر أن أميز النور عن الظلمة ، والظلمة عن النور ؟! .
أهانه اليهود وجحدوه طالبين صلبه وقبلته الشعوب الوثنية وخضعت له بالإيمان وقبلت عمله . لهذا دعى السيد " المهان النفس " ، " مكروه الأمة " ، " عبد المتسلطين " إذ تسلط عليه الأشرار وأبغضوه وأهانوه ، وفى نفس الوقت قيل " ينظر ملوك فيقومون ، رؤساء فيسجدون " إش 49 : 7 .
حيث يقوم الملوك عن كراسيهم فى حضرته ويسجد له الرؤساء متعبدين له .
( 2 ) عمله الخلاصى
بين أيدينا حديث الهي رائع يكشف عن سر خلاصنا فى المسيح يسوع ربنا الذى لا يعبر عنه ، ففى المسيح المخلص ننال الآتى :
أ – استجابة الله لنا ، فقد حان الوقت أن يسمع الآب لنا خلال إبنه المحبوب المصلوب كذبيحة طاعة للآب وموضع سروره ، فيستجيب لنا الآب فيه واهبا نفسه لنا أبا ، مقدما لنا حضنه كموضع راحة أبدية نستقر فيه .
هذا ما عناه بقولـه : " فى وقت القبول استجبتك " إش 49 : 8 . فقد حان الوقت الذى فيه يعلن قبولنا لدى الآب فى إبنه المقبول أزليا ، فيستجيب لنا على الدوام .
ب – بالمسيح يسوع مخلصنا صار الله نفسه عونا لنا ومعينا : " وفى يوم الخلاص أعنتك " إش 49 : 8 .
تسلم الرب نفسه قيادة المعركة ضد عدو الخير لنختفى نحن فيه وننال فيه الغلبة والنصرة .
يليق بنا أن نميز بين " يوم الخلاص " إش 49 : 8 أو " يوم الرب " ، .. وأيامنا نحن ، يوم الرب مفرح يهب خلاصا أما أيامنا التى نسلك فيها حسب هوانا فمحطمة ومهلكة .
جـ - بالمصلوب أيضا صرنا محفوظين فى الرب ، إذ يقول : " فأحفظك " إش 49 : 9 . ففى الصلاة الوداعية يقول المخلص : " لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير .. قدسهم فى حقك " يو 17 : 15 ، 17 .
د – التمتع بالمصلوب كعهد مع الآب : " وأجعلك عهدا للشعب لإقامة الأرض لتمليك أملاك البرارى " إش 49 : 8 .
قدم الله عهده الجديد ليس منقوشا على حجارة وإنما مسجلا بالدم فى جسد الإبن الكلمة المتجسد ، خلال هذا العهد لا تتمتع الكنيسة بأرض الموعد التى تفيض عسلا ولبنا وإنما ترث الأرض أى الشعوب التى كانت قفرا كالبرارى لتقيم منها فردوسا إلهيا ومملكة سماوية . فى جسد بشريته صالح الآب مع البشرية وأقام فى كل قلب مؤمن حقيقى ميراثا لا يعبر عنه .
أما سمات هذا الملكوت الجديد أو الميراث الداخلى أو الحياة الأنجيلية الكنيسة الحقة فهى :
أولا : الحرية : " قائلا للأسرى أخرجوا ، للذين فى الظلام اظهروا " إش 49 : 9 . فقد كسر متاريس الجحيم وأعطانا حرية مجد أولاد الله لنعيش حاملين سلطانا على الحيات والعقارب وكل قوة العدو ( لو 10 : 19 ) ، نسلك فى النور ، لا سلطان للظلمة علينا .
خلال هذه الحرية الداخلية نقبل برضانا الخضوع لله كعبيد له ، فنعيش أحرارا لا سلطان للعدو على أعماقنا .
ثانيا : التمتع بمرعى الهي خصب : " على الطريق يرعون وفى كل الهضاب مرعاهم " إش 49 : 9 . ما هو هذا الطريق إلا المخلص الذى دعى نفسه " الطريق " يو 14 : 6 ، به ندخل إلى هضاب مثمرة لنجد كل احتياجاتنا ، فلا نجوع ولا نعطش ولا يضربنا حر ولا شمس ، فيها نجد ينابيع الروح القدس كمياة حية تروى أعماقنا وتهبنا ثمرا ( إش 49 : 10 ) .
ثالثا : التمتع بطريق ممهد يدخل بنا إلى الأحضان الإلهية : " واجعل كل جبالى طريقا ومناهجى ترتفع " إش 49 : 11 .
ما هى هذه الجبال إلا وصايا الرب التى تبدو كجبال شاهقة يصعب تسلقها ، لكن باتحادنا مع المسيح " الطريق " يصير السير على الجبال أمرا طبيعيا ، وتتحول الوصية إلى لذة وبهجة لا إلى أوامر قاسية وحرمان .
رابعا : انفتاح أبواب الكنيسة أمام كل الأمم من المشارق والمغارب والشمال والجنوب .
" هؤلاء من بعيد يأتون ، وهؤلاء من الشمال ومن المغرب وهؤلاء من أرض سينيم " إش 49 : 12 . يقصد بالآتين من بعيد سكان الشرق الأقصى ، كما يقصد بأرض سينيم ( أسوان ) جنوب مصر بكونها تمثل القادمين من الجنوب .
خامسا : التمتع بحياة التسبيح والفرح كحياة تعيشها النفس ( السموات ) ويمارسها الجسد ( الأرض ) ويعبر عنها خلال الطاقات البشرية ( الجبال ) هكذا تشترك السموات مع الأرض بجبالها فى الترنم للرب ، " لأن الرب عزى شعبه وعلى بائسيه يترحم " إش 49 : 13 .
سر بهجتنا تعزيات الله المعلنة بالروح القدس فى أعماقنا خلال استحقاقات الدم الثمين ، فقد أقامنا المصلوب من بؤسنا وتراءف علينا برحمته العملية .
الآن رأينا كيف انتقل الرب من الحديث عن كورش كمنقذ لشعب الله من السبى إلى ما هو أعظم وأبقى ، الحديث عن السيد المسيح كمخلص لكل البشرية ، ينقذهم من الأسر الأبدى ليهبهم بركات خلاصه بالدخول بهم إلى ملكوته أى التمتع بالحياة الجديدة الكنسية المفرحة فى الرب ، كحياة فردوسية مقدمة لكل الشعوب والأمم .
( 3 ) إقامة المتروكة عروسا أبدية
لم يكن يتوقع شعب الله أنه يسبى ، وحين سبيت إسرائيل أو مملكة الشمال ظنت مملكة يهوذا أنها لن تسبى لأنها تحتضن هيكل الرب فى أورشليم مدينة الله . لكن سبيت يهوذا وانهارت أورشليم بالهيكل الذى دنسوه بالعبادة الوثنية والرجاسات كما جاء فى حزقيال وإرميا ، وظن المسبيون أنها ربما شهور قليلة ويتدخل الله ليحررهم . لكن عبرت الشهور والسنوات تلو السنوات ، فظن الشعب أن الله قد نسيه ، وشعر الكل بالعزلة والحرمان والترك . هذا ما عبر عنه النبى هنا هكذا :
" وقالت صهيون قد تركنى الرب وسيدى نسينى " إش 49 : 14 .
هذا الشعور بالعزلة هو ثمرة طبيعية يعانى منها غالبية البشر ان لم يكن جميعهم فى بعض اللحظات . فلإنسان فى وقت التجربة يشعر نفسه وحيدا ، ليس من يشاركه مشاعره وأحاسيسه ولا من يلمس مرارته الداخلية .
علاج هذه الحالة هو الألتقاء بالمخلص ...
الذى وحده يقدر أن يدخل إلى الأعماق ويقيم علمه محبة . يعلن بصليبه صداقة فريدة شخصية خلالها نتمتع بحب الهي فائق واتحاد مع الله لا يقدر الزمن ولا تستطيع الأحداث أن تحطمه .
بالصليب ضم الله البشرية إليه كعروس سماوية مقدسة لا يفارقها عريسها السماوى ، عوض الشعور بالترك .
والعجيب أن المخلص نفسه صرخ على الصليب قائلا :
" الوى الوى لماذا تركتنى ؟! " مر 16 : 34 .
كأنه كممثل للبشرية ونائب عنها يعلن عن موقفنا كمتروكين ومحرومين ! صار بالصليب كمن هو متروك لكى ينزع عنا الشعور بالحرمان والترك ويردنا إلى الأحضان الإلهية عروسا مقدسة !
الآن بماذا يجيب الرب على شعور صهيون بالحرمان ؟ .
" هل تنسى الأم رضيعها فلا ترحم ابن بطنها ؟! حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك " إش 49 : 15 .
بلا شك أن الأمومة تعتبر من أسمى درجات الحب البشرى ، فالأم التى تحمل ابنها أو ابنتها كجنين لشهور فى أحشائها يصعب أن تنساه بعد ولادته . ومع هذه فقد نسيت بعض الأمهات ابناءهن وبناتهن ، إذ قدم بعضهن أطفالهن ذبائح بشرية ، يلقين إياهم فى النار وسط ضربات الطبول كنوع من العبادة للإله بعل . وفى بعض المجاعات سمعن عن أمهات أكلن أطفالهن ، ولا نزال نسمع حتى اليوم عن مآسى كثيرة ..
وفى كل يوم أيضا نرى أمهات وآباء يقتلن أبناءهن خلال الجو العائلى الكئيب أو المشاكل العائلية خاصة الأنفصال والطلاق . ما أكثر ضحايا الطلاق ؟!
لم يترفق الآباء والأمهات بالأجيال الجديدة ، ولا أعطوا لهم حسابا فى حياتهم ، إنما فى أنانية يريدون تحقيق ما يظنوه سلاما على حساب حياة أولادهم وسلامهم الروحى والنفسى وأحيانا الأجتماعى والمادى أيضا .
قد تنسى الأم رضيعها أما الله فلا ينسانا !
إذا كان حب الأم يفوق كل حب ؛ غير أن حب الله حتما أعظم منه !
" هوذا على كفى نقشتك " إش 49 : 16 . من العادات الشرقيةالقديمة أن ينقش الإنسان اسم محبوبه على كفه ، علامة أنه لن ينساه حتى الموت ، وأن كل ما يعمله بيديه إنما لحساب محبوبه ..
لقد نقش الرب اسم كنيسته المحبوبة لديه على كفه بالمسامير ، لتبقى آثار الجراحات علامة حب أبدى ! بل نقش اسم كل عضو فيها على كفه علامة محبته الشخصية لنا بأسمائنا .
" أسوارك أمامى دائما " إش 49 : 16 ، كأنه يقول أنا أعلم أن أسوارك قد تهدمت ، أنا لن أنساها ، سابنيها لكن فى الوقت المحدد . سأرد لك قوتك وحصانتك ، وأرد إلى أرضى بنيك واطرد الهادمين والمخربين منها ( إش 49 : 17 ) .
" ارفعى عينيك حواليك وانظرى . كلهم قد اجتمعوا أتوا إليك . حى أنا يقول الرب تلبسين كلهم كحلى وتتنطقين بهم كعروس " إش 49 : 18 .
يالها من صورة بهية لكنيسة العهد الجديد ، فإنه عوض المدينة التى تهدمت أسوارها ، وطرد منها شعبها كمسبيين ، ودخلها الهادمون والمخربون ، يقيم الرب كنيسة العهد الجديد لا كمدينة حصينة فحسب يرجع إليها أولادها مسرعين ويطرد منها الأشرار المخربون ، إنما تصير عروسا سماوية تحمل زينة فريدة ، هى اجتماع أولادها فيها كأولاد لله ، لهم حرية المجد الداخلى .
لا يقف العدو صامتا إنما يريد أن يدخل ويخرب أولادها ، هذا الذى سبق فأثكلها بتحطيمه إيمان البعض ، إذ يقول لها : " ضيق على المكان ، وسعى لى لأسكن " إش 49 : 20 .
أما هى فترى يد الله العجيبة والعاملة فيها بالرغم من مقاومة العدو المستمرة ، فتردد فى قلبها قائلة : " من ولد لى هؤلاء وأنا ثكلى وعاقر منفية ومطرودة ؟ وهؤلاء من رباهم ؟ هانذا كنت متروكة وحدى . وهؤلاء أين كانوا ؟ " إش 49 : 21 .
إنها نعمة الله الفائقة التى تخرج من الآكل أكلا ومن الجافى حلاوة ! وإنها نعمته الغنية التى تقيم فينا ثمرا متكاثرا ليس من عندياتنا ، إنما هو عطية الله المجانية لمؤمنيه السالكين بالروح .
( 4 ) إقامة الذليلة ملكة :
إن كانت صهيون قد عاشت كأمة أسيرة ذليلة فى أرض الغربة ، الآن تعود إلى وطنها كملكة يشتاق الكل أن يرفعها على الأكتاف ويخضع لها الملوك ويسجدون أمامها يلحسون غبار رجليها .
" هكذا قال السيد الرب : ها إنى أرفع إلى الأمم يدى وإلى الشعوب أقيم رايتى " إش 49 : 22 . ما هو رفع اليد إلا مجىء السيد المسيح إلى العالم ليبسط يديه على الصليب فيضم إليه الأمم .
بهذا العمل الخلاصى تتمجد كنيسة المسيح ، إذ يقال لها :
" يأتون بأولادك فى الأحضان ، وبناتك على الأكتاف يحملن ، ويكون الملوك حاضنيك ، وسيداتهم مرضعاتك ، بالوجوه يسجدون لك ويلحسون غبار رجليك ، فتعلمين أنى أنا الرب الذى لا يخزى منتظروه " إش 49 : 22 ، 23 .
لقد تحقق ذلك ، فقد صار الملوك والملكات مؤمنين عاملين فى كنيسة الرب مثل قسطنطين الكبير وهيلانة ، يخدمون الكنيسة كملكة روحية فوق الكل .
( 5 ) الله فادى كنيسته
بدت هذه الوعود كأنها خيال بالنسبة لمعاصرى إشعياء وأيضا فيما بعد بالنسبة للمسبيين ، لذلك أكد الله أنه هو بنفسه الذى يحقق هذا الخلاص ، بكونه القادر وحده أن يحطم إبليس الجبار ويسحب منه الذين سبق أن سباهم .
" هل تسلب من الجبار غنيمة ؟! وهل يفلت سبى المنصور ؟! فإنه هكذا قال الرب : حتى سبى الجبار يسلب ، وغنيمة العاتى تفلت . وأنا أخاصم مخاصمك وأخلص أولادك ، وأطعم ظالميك لحم أنفسهم ويسكرون بدمهم كما من سلاف فيعلم كل بشر أنى أنا الرب مخلصك وفاديك عزيز يعقوب " إش 49 : 24 – 26 .
هكذا يليق بنا أن نثق فى الله مخلصنا ولا نضطرب أمام قسوة إبليس وعنه ، فإن المخلص قادر أن يحررنا من سبيه مهما كان العدو عاتيا وجبارا ، يردنا إلى كنيسته ويخاصم عنا مخاصمينا ، أى يقود المعركة بنفسه ، فيأكل العدو لحم نفسه ويشرب ويسكر كما بدمه ، أى يرتد عمله على رأسه ويذوق من عنفه مرارة حتى يفقد وعيه كمن فى حالة سكر