عـــزوا عــــزوا شعــــبى
افتتح السفر بالكشف عن مرارة ما وصل إليه شعب الله من فساد ، بل ما وصلت إليه البشرية كلها ، الآن فى هذا الإصحاح يرفعنا روح الله القدوس لنكشف خطة الله الخلاصية وتدبيره نحو شعبه لينعموا بعمله الإلهى وتعزياته الفائقة . غاية هذا الإصحاح وما بعده نزع اليأس من المسبيين وبث روح الرجاء فيهم .
( 1 ) عزوا عزوا شعبى
اعتاد الله أن ينسب الشعب إليه عند رضاه عنه فيدعوه " شعبى " ، أما فى حالة عصيانه فتارة ينسبه إلى موسى ( خر 32 : 7 ) أو يدعوه " الشعب " ( خر 32 : 9 ) ، وفى أكثر صراحة يقول " ليس شعبى " هو 1 : 9 ، وذلك لكى يثيرهم فيرجعوا إليه ويعود فينسبهم إليه ( هو 2 : 23 ) . أما هنا إذ يفتح أمامهم بل أمام البشرية المؤمنة باب الخلاص فيدعوهم " شعبى " .
اعتاد النبى تكرار بعض الكلمات مرتين كما جاء هنا " عزوا عزوا " [ 51 : 9 ، 17، 5 : 1 ] ، لأنه يتحدث عن كنيسة العهد الجديد القادمة من فريقين : اليهود والأمم ، لأنها كنيسة الحب الذى يوحد ويربط ، فإن رقم 2 يشير إلى الحب . المحبة تجعل الأثنين واحدا .
إنها كنيسة الحب الذى يربط الله بها كعريس بعروسه ، والذى يربط الأعضاء القادمين من كل الأمم كجسد واحد للرأس الواحد . خلال هذا الحب يخاطبها قائلا " طيبوا قلب أورشليم " إش 40 : 2 ، والترجمة الحرفية " تحدثوا إلى قلب أورشليم " .
الآن يتطلع النبى إلى موكب الشعب الراجع إلى أورشليم كرمز لموكب المفديين بدم رب المجد يسوع ، وقد جاء القديس يوحنا المعمدان يهىء الطريق لهذا الموكب المسيانى السماوى .
( 2 ) تهيئة الطريق للرب :
لعل إشعياء النبى قد سمع صوتا سمائيا يدعو السمائيين لتهيئة موكب العودة من السبى إلى أورشليم ، فقد سبق فرأى حزقيال النبى مجد الرب يفارق المدينة ( حز 11 : 22 – 25 ) ، والآن ها هو يعود الموكب مع عودة المسبيين ، وكأنه موكب ملوكى إذ يتقدمه الله نفسه محرر أولاده !
أما الموكب الأعظم فهو تهيئة الطريق لدخول المسيا المخلص إلى حياة البشرية ، الذى تحقق واسطة القديس يوحنا المعمدان – ملاك الرب – بالحديث عن التوبة واعلان الحاجة إلى المخلص ( مر 1 : 3 ، مت 3 : 3 ، لو 3 : 4 – 6 ، يو 1 : 22 ) .
كان القديس يوحنا هو الصوت الذى يدوى فى البرية ليهىء الطريق للكلمة الإلهى ، معلنا أن كل نفس متعجرفة ومتعالية تنحدر إلى أسفل ( إش 40 : 4 ) وكل قلب معوج يصير مستقيما ، وكل العقبات تزول لأن مجد الرب يعلن خلال المسيا المخلص ، ويراه كل بشر معا : من اليهود والأمم .
لذا يقول النبى : " صوت صارخ فى البرية : أعدوا طريق الرب ، قوموا فى القفر سبيلا لإلهنا . كل وطأء يرتفع ، وكل جبل وأكمة ينخفض ، ويصير المعوج مستقيما والعراقيب سهلا ، فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر معا ، لأن فم الرب تكلم " إش 40 : 3 – 5 .
بماذا ينادى هذا الصوت ؟ بإنجيل العهد الجديد الذى هو طريق الرب ، الذى يرفع النفوس المتضعة إلى الحياة السماوية ، ويحطم كبرياء المتشامخين ، يجدد الخليقة التى أعوجت لتسلك باستقامة ، ويزيل العقبات من أمامها ، فيتمجد الرب فى البشرية المؤمنة ( إش 40 : 3 – 5 ) .
القديس غريغوريوس النزينزى يقول :
+ ليتك تسير فى الطريق الملوكى ، لا تنحرف عنه يمينا ولا يسارا ، إنما يقودك الروح خلال الباب الضيق ، عندئذ تنجح كل أمورك عند استجوابل هناك فى المسيح يسوع ربنا .
سمع النبى إشعياء صوتا سماويا آخر يؤكد أن كل جسد ( انسان ) هو كعشب الأرض ( مز 90 : 5 ، 103 : 15 ) : " كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل . يبس العشب ذبل الزهر لأن نفخة الرب هبت عليه ........ " . ( إش 40 : 6 ، 7 ) .
" أما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد " إش 40 : 8 .
من يلتصق بتراب الأرض أو بمحبة الزمنيات يصير عشبا زائلا ، ومن يلتصق بالسيد المسيح " كلمة الله " يقوم معه ليحيا فى مجده أبديا .
( 3 ) خطة الله فائقة الإدراك
الآن بعدما أبرز أن من يرتبط بالزمنات الفانيات يصير كعشب الأرض الذى يذبل ومن يلتصق بكلمة الله الأبدى يبقى معه أبديا ، يعلن عن معنى الأرتباط بكلمة الرب .
( أ ) قبول البشارة الإنجيلية المفرحة : " على جبل عال اصعدى يا مبشرة صهيون ، ارفعى صوتك بقوة يا مبشرة أورشليم . ارفعى لا تخافى . قولى لمدن يهوذا : هوذا إلهك . هوذا السيد الرب بقوة يأتى وذراعه تحكم له " إش 40 : 9 ، 10 .
من هذه التى ترفع صوتها إلا كنيسة العهد الجديد التى تصعد بالبشرية كما على جبل كلمة الله خلال كرازة التلاميذ والرسل بل وشهادة كل الشعب .
( ب ) إدراك حقيقة الله ، فإننا إذ نرتفع إلى الحياة الجديدة نلتقى مع الرب على مستوى شخصى ، فلا نجده قوة خفية مجهولة وإنما كائنا يتعامل معنا .
( جـ ) اكتشاف رعاية الله لنا بكونه الراعى المهتم بقطيعه : " كراع يرعى قطيعه . بذراعه يجمع الحملان وفى حضنه يحملها ويقود المرضعات " ( إش 40 : 11 ) ، وهو فريد فى شخصه كما فى رعايته :
+ + إنه الخالق القدير فى رعايته : " من كال بكفه المياة ؟! وقاس السموات بالشبر ؟! وكال بالكيل تراب الأرض ؟! ووزن الجبال بالقبان والآكام بالميزان ؟! " إنه خالق المياة والسموات كما التراب والجبال الصلدة . الذى خلق يقدر أن يجدد الخليقة .
+ تشير المياة إلى الشعوب ،
+ والسموات إلى النفس ،
+ والأرض إلى الجسد ،
+ والجبال والتلال إلى قدرات الإنسان ومواهبه ،
وكأن الله فى رعايته قدير ، يجدد الكنيسة ككل بضم الشعوب إليها ، كما يجدد كل نفس مع الجسد بطاقاته وأحاسيسه ومشاعره وإمكانياته .
إنه يقيس ويزن كل شىء ، إذ هو كلى القدرة .
+ + كلى الحكمة : " من قاس روح الرب ومن مشيره يعلمه ؟! من استشاره فأفهمه وعلمه فى طريق الحق وعلمه معرفة وعرفه سبيل الفهم ؟! إش 40 : 13 ، 14 .
مع كونه الخالق القدير الذى أوجد الطبيعة من أجلنا يرعاها ويهتم بها ، هو أيضا كلى الحكمة يعرف ما هو لخلاصنا وبنياننا ، خطته غير خطتنا ، وتدابيره تعلو عن تدابيرنا ( رو 11 : 34 ) .
+ + ضابط الكل لا يفلت شىء من يده : " هوذا الأمم كنقطة من دلو وكغبار الميزان تحسب ، هوذا الجزائر يرفعها كدفة ... " إش 40 : 15
إنه ضابط الكل ... فإن كانت الأمم تريد أن تحكم العالم وتسوده خلال العنف والقوة فهى ضعيفة للغاية ، يراها الله نقطة ماء فى دلو وغبار ميزان .. أما الله ففى ضعف الصليب وجهالته يحكم ويملك بقوة وسلطان على الأعماق .
الأرض بكل شعوبها صغيرة للغاية بالنسة للمخلص ، يحملها كغبار فى مقياس صغير ، أما سكان الجزائر المتخرون بسفنهم التجارية والحربية فجميعهم معا أشبه بدفة يمسكها الرب بيده !
+ + اهتمامه بالأمم : " ولبنان ليس كافيا للإيقاد وحيوانه ليس كافيا لمحرقة . كل الأمم كلا شىء قدامه ، من العدم والباطل تحسب عنده " إش 40 : 16 ، 17 . تصوير شعرى عن قبول الأمم الإيمان بالله حتى أن كل شجر لبنان ( الأرز ) لا يكفى للإيقاد لمذبح الرب وجميع حيواناته لا تكفى لتقديم محرقات ... لقد صارت الحاجة إلى خشبة الصليب التى تسمو فوق كل أرز لبنان ، وذبحة المسيح التى لا تقارن بالذبائح الحيوانية جميعها . خلال هذا المذبح ( الصليب ) وهذه الذبيحة يتمتع الأمم بالخلاص .
+ + عظمة السيد المسيح المخلص والذبيح :
" فبمن تشبهون الله وأى شىء تعادلون به ؟! " إش 40 : 18 ، تكاليف الأوثان باهظة تحتاج إلى ذهب وفضة أو خشب لا يسوس مع تكلفة للصانع الماهر الذى يقوم بعملها ( إش 40 : 20 ) ، يقابل ذلك شوق اللصوص لسرقتها ، أما مسيحنا فيقدم خلاصا مجانيا .
+ + " الجالس على كرة الأرض " إش 40 : 22 .
كان الأعتقاد السائد أن الأرض مسطحة وليست كرة ، لكن إشعياء رأى الرب جالسا على كرة الأرض كملك يجلس على عرشه ، يقيم مملكته فى قلوب البشر .
" سكانها كالجندب ( الجراد ) ، الذى ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن " إش 40 : 22 .
إنه لا يملك عن احتياج لخدمة الأرضيين أو السمائيين ، إنما عن حب ورعاية أبوية .
انشغل المنجمون بحسابات الفلك وانظمتها أما الله فيعلم كل دقائقها كخالق لها ، يدعوها بأسماء ( إش 40 : 26 ) ، فكيف لا يعرف كل إنسان ويهتم بخلاصه ؟!
( 4 ) موقف غير المؤمنين
كثيرا ما يظن الجاحدون للإيمان أن الله فى مجاله عيد عن دائرة البشر ، هو فى سمواته بينما يعيش الإنسان فى عالمه .. هذا هو جوهر الفكر الإلحادى المعاصر ، وهو فكر قديم يضرب به العدو الإنسان ليفقده تلاقيه مع خالقه واتحاده معه وعشرته ، وكما جاء هنا فى هذا السفر : " لماذا تقول يا يعقوب وتتكلم يا إسرائيل : قد اختفت طريقى عن الرب وفات حق الهي " إش 40 : 27 .
هذا هو ما يردده الإنسان وسط تعبه الروحى .. يحسب نفسه وحيدا معزولا حتى عن الله الذى لا يبالى بطريق الإنسان وحياته . لعل هذا هو ما قاله المسبيون إذ ظنوا أن الله قد نسيهم تماما ، فقد عبرت الشهور والسنوات وكأنه قد نكث عهده مع آبائهم ولم يعد يفكر فيهم أو يهتم بعودتهم . إنه لا يبالى بقضيتهم ولا يهتم بطريقهم ، تركهم فى بابل وبقى فى سمواته لا يتحرك لنزع عارهم ورفع الذل والعبودية عنهم (إش 40 : 27 – 30 ) .
+ + يهبنا روحه القدوس الذى يجدد طبيعتنا ويرفعنا بأجنحة الروح كما إلى السماء عينها ، نرتفع بلا قلق .. " وأما منتظرو الرب فيجددون قوة ، يرفعون أجنحة كالنسور ، يركضون ولا يتعون ، يمشون ولا يعيون " إش 40 : 31 .