إنسكاب الروح والحياة الجديدة
يعتبر هذا الإصحاح تكملة للأصحاح السابق ، فيه يعلن الله عن تحقيق خلاصنا بسكب روحه القدوس على كنيسته لأجل تجديدها المستمر ، يقيم فيها شهودا له بعمله الداخلى فيهم ، يشبعهم ويقدسهم ، غافرا خطاياهم ، وذلك على خلاف الفراغ الداخلى الذى عانى منه الناس خلال العبادة الوثنية .
كأن الخلاص الذى يقدمه الله لشعبه يحمل اتجاهين : تأكيدا أن الله فيه كفايتنا ، البعد عنه سخافة وخداع للقلب .
( 1 ) انسكاب الروح
يحقق الله دعوته واختياره لإسرائيل الجديد بانسكاب روحه القدوس على المؤمنين ليقيم كنية العهد الجديد ، إذ يقول : " والآن اسمع يا يعقوب عبدى وإسرائيل الذى اخترته ، هكذا يقول الرب صانعك وجابلك من الرحم معينك . لا تخف يا عبدى يعقوب ويايشورون الذى أخترته ، لأنى اسكب ماء على العطشان وسيولا على اليابسة . أسكب روحى على نسلك وبركتى على ذريتك ، فينبتون بين العشب مثل الصفصاف على مجارى المياة ، هذا يقول : أنا للرب وهذا يكنى باسم يعقوب ، وهذا يكتب بيده للرب وباسم إسرائيل يلقب "
إش 44 : 1 – 5 .
يلاحظ فى هذه العطية العظمى الآتى :
( أ ) يشتاق الله أن يعطى ليس فقط بركاته وعطاياه الخارجية إنما أن يهب ذاته للإنسان :
" أسكب روحى على نسلك " ، يهب واهب العطايا ، ومانح البركة كهبة وعطية ..
( ب ) يدعو كنيسته " يشورون " ، وقد ظهر هذا الأسم أربع مرات فى العهد القديم ( تث 32 : 15 ، 33 : 5 ، 6 ) ، معناه " مستقيم " ، مشتقة من ياشر . وكأنه يدعو كنيسته التى ضمت الخطاة " مستقيمين " وذلك بفعل روحه القدوس . كانه يشجع شعبه على التجاوب مع عطية روحه القدوس فيتركوا انحرافهم وعصيانهم ويترنموا ببهاء الرب وجماله الروحى .
( جـ ) يقدم لنا عطية روحه القدوس الذى يعمل فينا حسب احتياجنا ، فمن كان ظمآنا يسكب له ماء ليرويه ، أما من كان كأرض يابسة فيفيض عليه سيولا لتحول اليبوسة والقفر إلى بستان . إنه سخى فى العطاء ، يهبنا حسب احتياجنا ، وقدر تجاوبنا معه . يقول :
" افغر فاك فأملأه " مز 81 : 10 .
( د ) ماذا يعنى : " ينبتون بين العشب مثل الصفصاف على مجارى المياة " ؟ ربما عنى أن المتمتع بعطية الروح القدس ينت كشجرة ضخمة بين عشب زائل .
( هـ ) من يتمتع بالروح يكتب على يده : " للرب " ، إذ كانت العادة القديمة أن يكتب الإنسان اسم الإله أو سيده على يده كوشم ، وقد منع الله شعبه من ذلك حتى لا يكتبوا اسم الوثن على أيديهم عند انحرافهم فيصعب بل وكان مستحيلا إزالته .
" وباسم إسرائيل يلقب " ، إذ حملت كنيسة العهد الجديد المتمتعة بعطية الروح لقب
" إسرائيل الجديد " ، ورثت عن إسرائيل القديم الكتب المقدسة بما ضمته من شريعة إلهية ووصايا ونبوات وعهود ومواعيد .. لقد فهمت ذلك كله بالروح لا الحرف وأدركت أسرارا إلهية وتمتعت بأمور فائقة .
( 2 ) أنتم شهودى
المتحدث هنا هو السيد المسيح ، الصخرة التى أفاضت ماء على الشعب ( 1 كو 10 : 4 ) لذا يقول " أسكب ماء على العطشان " إش 44 : 3 ، وها هو يدعو نفسه " ملك إسرائيل وفاديه " إش 44 : 6 ، وقد اعترف أمام بيلاطس أنه ملك .
يدعو نفسه هنا " رب الجنود " ، " أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيرى " إش 44 : 6 . وفى سفر الرؤيا يقول السيد المسيح : " أنا هو الألف والياء ، البداية والنهاية " رؤ 1 : 8 ، " أنا هو الأول والآخر " رؤ 1 : 17 ، 22 : 13 . واضح أن الفادى رب الجنود الإله الوحيد الذى ليس إله غيره . هو المسيح المخلص .. هذه هى شهادة المتمتعين بخلاصه :
" فأنتم شهودى ، هل يوجد إله غيرى ؟ " إش 44 : 8 .
( 3 ) الوثنية والفراغ
بعدما تحدث عن عطية الروح العظمى التى قدمتنا شهودا للحق ، نعلن عن تمتعنا بالله مخلصنا كرب الجنود ، قائد المعركة الروحية ، ومشبع الكل بكونه الأول والآخر ، سند رجال العهد القديم وأيضا مؤمنى العهد الجديد .. الآن يقارن بين شهادة المؤمنين وشهادة عبدة الأوثان :
أ – الشهادة للمخلص تهب شبعا وارتواء وإثمارا : " لأنى أسكب ماء على العطشان وسيولا على اليابسة ..... فينبتون بين العشب مثل الصفصاف " إش 44 : 3 ، 4 .
أما الشهادة للأوثان فتقدم بطلانا وفراغا وجوعا مع عمى وجهل :
" الذين يصورون صنما كلهم باطل ، ومشتهياتهم لا تنفع ، وشهودهم هى ، لا تبصر ولا تعرف حتى تخزى " إش 44 : 9 .
ب – الشهادة للمخلص تهب سلاما : " لا تخف " إش 44 : 2 ؛ " لا ترتعبوا ولا ترتاعوا " إش 44 : 8 ، أما خوفه فخوف ورعدة " يجتمعون كلهم يقفون يرتعبون ويخزون معا " إش 44 : 11 .
لقد اجتمعت كل الطاقات معا ضده من رؤساء كهنة وكتبة وفريسيين وصدوقيين وولاة رومان الخ ... لكنهم حملوا رعبا وخوفا حتى فى لحظات الصلب والسخرية بالمصلوب ! أرعبهم شرهم الداخلى وفراغ قلبهم من النعمة الإلهية ، وثارت الطبيعة عليهم فانكسفت الشمس وانخسف القمر وحدثت زلازل وتشققت الصخور وقام كثير من الأموات !
جـ - يتمتع شهود الرب بالكرامة فيحسبون " إسرائيل الجديد " وينقشون اسم المخلص على أيديهم الداخلية ، وكأنهم لا يعملون إلا باسمه ( إش 44 : 5 ) ، أما شهود الخارجين عنه فيحملون عارا وخزيا ( إش 44 : 11 ) .
أخيرا ماذا تقدم عبادة الأوثان ( = اعتزال الله ) :
أ – عمى البصيرة الداخلية وظلمة داخلية ( إش 44 : 18 ) ـ بينما المسيح هو شمس البر ( ملا 4 : 2 ) .
ب – جهلا وعدم معرفة ( إش 44 : 19 ) ، بينما المسيح هو برنا .
جـ - جوعا فيأكل الإنسان رمادا ( إش 44 : 20 ) ، بينما السيد المسيح هو الخبز السماوى
د – كذبا وخداعا وتضليلا ( إش 44 : 20 ) ، بينما السيد المسيح هو الطريق والحق .
بمعنى آخر نجد فى مسيحنا الأستنارة الداخلية والمعرفة والشبع والحق وكل احتياجاتنا ، أما خارجه فلا يوجد إلا الفراغ الداخلى والشعور بالعزلة وفقدان البصيرة الداخلية .
( 4 ) أنت لى
أبرز بطلان العبادة الوثنية أو اعتزال الله ، لا للنقد العقلانى المجرد ، وإنما لإثارة النفس وحثها على قبول عمل الله الخلاصى ، الذى يتركز فى الآتى :
أ – إقامة شعب لله : " اذكر هذه يا يعقوب ، يا إسرائيل فإنك أنت عبدى " إش 44 : 21 ... رنا إسرائيل الجديد المتعبد لله .
ب – انتسابنا له : " لى أنت " إش 44 : 21 ، لسنا فقط خليفته وشعبه ، إنما يعتز الله بنا كأولاد له ، منسوبين إليه .
جـ - غير منسيين منه ( إش 44 : 21 ) .
د – ننعم بغفران الخطايا مهما بلغت كثافتها : " قد محوت كغيم ذنوبك وكسحابة خطاياك ، ارجع إلى لأنى فديتك " إش 44 : 22 .
هـ - يهب النفس ( السموات ) تسبيحا ، والجسد ( الأرض ) هتاف فرح ، وطاقاتنا ( الجبال ) ترنما ، ويصير كل ما فى داخلنا كأشجار تمجد الله ( إش 44 : 23 ) .
( 5 ) نبوة عن كورش :
قبل حوالى 220 سنة أعلن الله عما يتم على يدى كورش الوثنى لأجل بنيان أورشليم وتأسيس الهيكل حسب مسرة الله : " القائل عن كورش راعى ، فكل مسرتى يتمم ، ويقول عن أورشليم ستبنى وللهيكل ستؤسس " إش 44 : 28 . هنا لأول مرة يذكر اسم " كورش " راحة ، معناه بالفارسى " شمس " ، وبالأرامية " راع " ، يرى البعض أن " راعى " لقب لبعض ملوك الشرق الأوسط قديما .
يذكر المؤرخ اليهودى يوسيفوس أن كورش قرأ فى إشعياء اسمه قبل 220 سنة وأراد أن يحقق ما ورد عنه ( راجع عزرا 1 : 2 ، 2 أى 36 : 23 ) .
ماذا يعنى بقوله : " القائل للجة انشفى وأنهارك أجفف " إش 44 : 27 ؟
أ – يصور أورشليم بلجة ماء ونهر لا يمكن أن يقام فيه الهيكل بعد ، وذلك حسب الفكر البشرى ، لأن اليهود فقدوا رجاءهم تماما أثناء السبى البابلى ، لكن الله الكلى القدرة والرعاية يجفف اللجج والأنهار محققا وعوده لنا .
ب – ربما يشير هنا إلى عبور بحر سوف ونهر الأردن ليؤكد أنه قادر أن يعبر بهم من السبى ويردهم إلى أرض الموعد .
جـ - ربما أشار إلى كورش الذى عبر الفرات واقتحم مملكة بابل .