كورش والخلاص
تعتبر الإصحاحات السابقة ( 40 – 44 ) دعوة موجهة إلى الكنيسة لكى تتعزى بالله مخلصها ، فيه وحده تجد شبعها بكونها له وهو لها ، الآن يعلن الله خلال الإصحاحات 45 – 47 عن سر تعزيتها ألا وهو تحطيم الشر المقاوم لها . فقد سبق فدعى كورش راعيه ( إش 44 : 28 ) معلنا عن اسمه قبل حوالى قرنين من هجومه على بابل بكونه آلة فى يد الله لتحطيم من أذل شعبه واستخدامه لإرجاعهم إلى وطنهم .
( 1 ) حديث الهي لكورش
يظهر من الكتابات البابلية أن كورش هذا كان ابنا لقمبيز وحفيدا لكورش آخر ، وجميعهم مع أجدادهم ملكوا فى شرق عيلام حيث كانت شوشان عامة ملكهم منذ سنة 550 ق . م .
يعتبر كورش مؤسس المملكة الفارسية ، قيل إنه بدأ حياته كقائد فرقة خاملة فى فارس ، نجح فى أن يصير قائدا لفرقتين من جنود الجبال ، وكان طموحا للغاية فبدأ غزواته للممالك الصغيرة المجاورة ، غير أن بابل سخرت به واستهترت بإمكانياته حتى دخل بابل سنة 539 ق . م . فى أيام بيلشاصر ملكها ، وكان قد جمع فى شخصه قوة مملكتى فارس ومادى ، بهذا تحققت نبوة دانيال ( دا 5 : 28 ) ، وكان دانيال فى بلاط كورش أيضا ( دا 6 : 28 ) .
قالوا عن كورش أنه كان كمثل أعلى فى القوة مع البساطة والطهارة وضبط النفس .
الآن يوجه الله حديثا لكورش قبل مجيئه بحوالى قرنين ، فيه يعلن عن نظرته إليه ، وعمله الإلهى فى حياته ، وغاية الله منه .
ويلاحظ فى هذا الحديث الآتى :
أ – تظهر كلمة " أنا " للرب 16 مرة فى حديث الله مع كورش ( إش 45 : 1 – 7 ) . و 31 مرة فى الإصحاح كله . وكأن الله يريد تأكيد أن قيام كورش بسماح الهي وأن غلبته هو وجيشه وتحطيم بابل كإناء خزفى لا يمكن إصلاحه هو من قبل الله نفسه .
ب – يدعو الرب كورش " مسيحه " إش 45 : 1 ، مع أنه لا يعرف الرب ( إش 45 : 4 ، 5 ) ، ربما لأنه كان يتعبد لله الواحد المجهول مع احترامه للديانات ككل ، أو لأنه حقق خطة الله نحو خلاص شعبه من السبى البابلى ، ولأنه كان رمزا للسيد المسيح مخلص العالم
جـ - من جهة عمل الله معه يقول : " الذى أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمما وأحقاء ملوك أحل " إش 45 : 1 . يقوم الله بدور الأب الذى يمسك بكورش كطفل له لكى يسير ، وكأن الله هو الموجه له وسر قوته يسنده ليحطم الشر . يعطيه النصرة فى الحرب ضد الأمم فيدوسهم ، إذ كانت العادة أن يدوس المنتصر على أعناق العظماء المأسورين ، وأن يحل احقاء ملوك أى يفقدهم قوتهم وعظمتهم وجبروتهم . وقد تحقق ذلك حرفيا عندما رأى بيلشاصر الملك أصابع يد إنسان تكتب على حائط القصر ، " تغيرت هيئة الملك وأفزعته أفكاره وانحلت خرز حقويه واصطكت ركبتاه " دا 5 : 6 .
على أى الأحوال كان كورش رمزا للسيد المسيح فى هذا الأمر الذى قيل عنه " الرب عن يمينك يحطم فى يوم رجزه ملوكا " مز 110 : 5 .
العجيب أنه قيل فى نفس المزمور على لسان الآب " اجلس عن يمينى " مز 110 : 1 .
لأنه لا يعنى باليمين وضعا مكانيا أو اتجاها معينا إنما هو رمز للقوة الإلهية ، وعلامة الإتحاد وعدم الأنفصال ، إذ هما واحد فى اللاهوت وواحد فى القوة .
د – " لأفتح أمامه المصراعين ، الأبواب لا تغلق " إش 45 : 1 . هكذا يتقدم الله أمام كورش مسيحه ليفتح أمامه الأبواب المغلقة وتنهار قدامه الحصون التى من عمل البشر ، حتى الطبيعة أيضا تتحرك لمساندته : " أن أسير قدامك والهضاب أمهد ، أكسر مصراعى النحاس ومغاليق الحديد أقصف " إش 45 : 2 .
حينما نرتبط بمسيحنا الغالب نسير فى الطريق الملوكى ونرتفع نحو السماويات كما بغير عائق ، لأن الرب يتقدمنا ، فتفتح أمامه أبواب الأبدية لحسابنا . لقد اقتحم كورش أسوار بابل بأبوابها النحاسية الضخمة التى بلغت مئة بابا كقول هيرودت .
هـ - الله يهب كورش كنوز بابل الخفية ، إذ كانت عادة الملوك أن يخفوا كنوزهم فى أماكن لا يعلمها أحد حتى لا يستطيع العدو أن يغتصبها .
" وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابىء لكى تعرف إنى أنا الرب الذى يدعوك باسمك إله إسرائيل " إش 45 : 3 . مادام الله هو " مصور النور " إش 45 : 7 ، لهذا فهو يكشف لأبنائه الأمور المخفية ويهبهم كنوز نعمته غير المدركة .
و – يكشف الله لكورش غايته منه : " لأجل عبدى يعقوب وإسرائيل مختارى دعوتك باسمك ، لقبتك وأنت لست تعرفنى " إش 45 : 5 . ما يقدمه له إنما لحساب مؤمنيه ، ولأجل شعبه .. هكذا يليق بنا – كمسحاء للرب التصقنا بربنا يسوع المسيح الفريد – أن نتعرف على رسالتنا ألا وهى بنيان الجماعة ونموها فى الرب .
ز – إذ عرفت الديانات الفارسية بالغنوصية التى ركزت على " ثنائية الله " بمعنى وجود إله للخير وإله للشر ، لهذا أراد الله أن ينتزع هذا الفكر من كورش ، قائلا له : " أنا الرب وليس آخر ، مصور النور وخالق الظلمة ، صانع السلام وخالق الشر ، أنا الرب صانع كل هذه " إش 45 : 7 .
جاءت كلمة " الشر " لا بمعنى الخطية وإنما ثمر الخطية أو عقوبتها من حزن وضيق . يقول القديس يوحنا الذهبى الفم : [ يوجد شر هو بالحقيقة شر : الزنا ، الدعارة ، الطمع ، وأشياء أخرى مخفية بلا عدد تستحق التوبيخ الشديد والعقوبة .كما يوجد أيضا شر هو فى الحقيقة ليس شرا ، إنما يدعى كذلك مثل المجاعة ، الكارثة ، الموت ، المرض وما أشبه ذلك ، فإن هذه ليست شرورا وإنما تدعى هكذا . لماذا ؟ لأنها لو كانت شرورا لما كانت تصبح مصدرا لخيرنا ، إذ تؤدب كبرياؤنا وتكاسلنا ، وتقودنا إلى الغيرة ، وتجعلنا أكثر يقظة ] .
( 2 ) تذمر على اختيار كورش
يبدو أن تذمرا قد حدث بين اليهود كما أيضا بين الأمم ، تذمر اليهود على الله لأنه يحقق الخلاص برجل وثنى ، فإن اختياره يحطم كبرياءهم وتعصبهم لبنى جنسهم . هذا من جانب اليهود أما الأمم فقد تمرمرت نفس بعضهم أن يقوم أحدهم بهذا الدور فيحقق خلاصا لليهود من السبى ويساعد على إقامة الشعائر بأورشليم .
أمام هذا الوضع رفع إشعياء قلبه نحو الله ليقدم صلاة ليتورجية فيها يعلن أن ما يحدث خلال كورش هو رمز لما يتحقق بواسطة السيد المسيح . :
" أقطرى أيتها السموات من فوق ، ولينزل الجو برا . لتنفتح الأرض فيثمر الخلاص ، ولتنبت برا معا ، أنا الرب قد خلقته " إش 45 : 8 .
كأن النبى يردد أن الخلاص يتم لا بسبب كورش وإنما خلال خلاص السيد المسيح وبره ... فى السيد المسيح تلاقت السموات مع الأرض ، إذ هو ابن الله السماوى ابنا للبشر ، ولد كبشرى على أرضنا .. وكأنه يقول " طأطأ السموات ونزل " مز 18 : 9 ....
بعدما حول النبى أنظارنا من كورش إلى المسيح المخلص خلال ذبيحته الفريدة القادرة أن تبرر ، عاتب اليهود والأمم على تذمرهم ضد الرب ، مقدما ويلين :
أ – الويل الأول : دخول الخزف فى مخاصمة مع الخزاف ، والطين مع جابله ، فإنه ليس من حق قطعة الخزف أن تطالب صانعها بشكل معين كأن تقول له :
" عملك ليس له يدان " إش 45 : 9 .. أى صنعت الخزف بدون يدين .
ب – الويل الثانى : احتجاج الطفل على أبيه أو أمه " ماذا تلد ؟" أو " ماذا تلدين ؟ " .. كنت أود أن تلداننى ملاكا لا إنسانا يحمل ضعفا بشريا ويدخل تحت أثقال الحياة الأرضية ومتاعبها .
يليق بنا كخزف أو كبنين أن نشكر جابلنا وأبانا لا أن نتذمر عليه !
( 3 ) الله المخلص المحتجب
انشغل اليهود كما الأمم بقصة كورش فى حرفيتها وفى أعماله الزمنية ، مع أنه كان يليق بالكل أن يخترقوا الحرف ويلتقوا بالله المحتجب العامل وراء التاريخ لخلاص الجميع . ففى عتاب أبوى يقول الرب : " أسالونى عن الآتيات . من جهة بنى ومن جهة عمل يدى أوصونى " إش 45 : 11 .
أود ألا تنشغلوا إلا بالآتيات أى بالمستقبل الأبدى حيث يليق بكم أن تطلبوا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم . وأن تصلوا من أجل بنيه ، أى ننشغل فى صلواتنا بمؤمنيه وعمل يديه ، إذ يليق بنا أن ندرك مركزنا ودالتنا العجيبة لديه .
مرة أخرى يؤكد لهم أنه يجب أن ينشغلوا به لا بكورش فهو " إله محتجب .. المحتجب " إش 45 : 15 ، هو العامل فى الخفاء .
سمات هذا الخلاص الإلهى :
أ – خلاص مجانى : " أنا قد أنهضته بالنصر ، وكل طرقه أسهل ، وهو يبنى مدينتى ، ويطلق سبيى بلا ثمن ولا بهدية يقول رب الجنود " إش 45 : 13 . فقد حقق كورش خطة الله نحو شعبه دون انتظار مكأفاة من الشعب ، لم يدفعوا ثمنا لكورش من أجل تسهيل الطرق لهم وبناء المدينة وتحريرهم من السبى . كان ذلك رمزا لخلاص السيد المسيح المجانى كقول الرسول بولس : " متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذى بيسوع المسيح ، الذى قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله " رؤ 3 : 24 ، 25 .
ب – خلاص جامعى : يحول المصريين والكوشيين والسبائيين إلى الإيمان ، فيدخلوا إسرائيل الجديد بروح الأتضاع والعبادة ( إش 45 : 14 ) . لقد بسط ربنا يسوع المسيح يديه على الصليب ليضم بالواحدة الشعب القديم ، وبالآخر جماعة الأمم ، لقد ضم العالم كله فى أحضانه ليرفع البشرية إلى النبوة للآب بروحه القدوس .
جـ - خلاص أبدى : " أما إسرائيل فيخلص بالرب خلاصا أبديا ، لا تخزون ولا تخجلون إلى دهر دهور الأبد " إش 45 : 17 .
د – خلاص علنى : " لن أتكلم بالخفاء فى مكان من الأرض مظلم " إش 45 : 19 لقد صلب رب المجد علانية على جبل الجلجثة .
( 4 ) دعوة للخلاص فى المسيح
يتحدث السيد المسيح إلى الأمم ليدعوهم للتمتع به كمخلص قادر أن يبررهم : " واجتمعوا وهلموا تقدموا معا أيها الناجون من الأمم ..إلتفتوا إلى واخلصوا يا جميع أقاصى الأرض لأنى أنا الله وليس آخر . بذاتى أقسمت خرج من فمى الصدق ، كلمة لا ترجع ، أنه لى تجثو كل ركبة ، يحلف كل لسان ، قال لى إنما بالرب البر والقوة ، إليه يأتى ويخرج جميع المغتاظين عليه ، بالرب يتبرر ويفتخر كل نسل إسرائيل " إش 45 : 20 – 24 .
يلاحظ فى هذه الدعوة :
أ – دعوة جماعية فيها يطلب من الأمم أن تجتمع معا ككنيسة مقدسة واحدة ، تتقدم بروح الجماعة لقبول عمله الخلاصى .
ب – الله هو المخلص وليس آخر .
جـ - دعوة مملوءة رجاء ، تحقق هدفها بأن تجثو له كل ركبة .
د – دعوة قوامها الإيمان : " إلتفتوا إلى " ، كما سبق أن آمن الشعب القديم والتفت إلى الحية النحاسية فبرأوا .
هـ - التمتع ببر المخلص وقوته .
ز- المخلص هو سر مجد مؤمنيه وخزى مقاوميه